Site icon مجلة طلعنا عالحرية

عن استعصاء القضية الكردية

طارق عزيزة

تنطوي القضية الكردية على جملة معطيات معقّدة، تتداخل فيما بينها لدرجة تتبدّى معها مستعصيةً على الحل أو تكاد. فهي إذ تمتد من حيث جذورها وتفاعلاتها، كما النتائج التي قد تتأتّى عن حلّها، لتطال أربع دولٍ (تركيا، العراق، إيران، وسوريا)، سيكون من الصعب التعامل معها سواء على المستويين الإقليمي والدولي أو على المستوى المحلّي من منظارٍ واحد، أو بوصفها قضيةً واحدة. فقد أسهمت أحوال الأكراد وظروفهم المتباينة في كلّ من تلك البلدان، إلى هذا الحدّ أو ذاك، في اندراج قضيّهم ضمن سوق التجاذبات وبورصة المصالح الإقليمية والدولية المتداخلة، ما أدّى بها إلى مزيد من التعقيد.
استغلّت دول عدّة حالة التشرذم التي تعانيها القوى السائدة في الأوساط الكردية وخلافاتها التي تتقاطع في بعض جوانبها مع اختلاف البنى الأهلية والسياسية للشعب الكردي، الأمر الذي سهّل على أنظمة المنطقة وسواها استخدام الأكراد لضرب بعضهم بعضاً حيناً، أو للزج بهم في صراعاتها البينية أحياناً.
وفي المقابل لم تتورّع أطراف كرديةّ رئيسية في صراعاتها الداخلية عن الاستعانة بأنظمة تعادي الحقوق الكردية، على نحو ما جرى بين أكراد العراق أواسط تسعينيات القرن الماضي، حين تلقّى “الاتحاد الوطنيّ الكردستانيّ” وكان يقوده جلال طالباني دعم الحرس الثوريّ الإيرانيّ، خلال صراعه الدامي مع “الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ” بزعامة مسعود برزاني، الذي كان يستعين بقوّات النظام العراقي، ولم يتوقّف القتال بينهما إلا بعد وساطةٍ أمريكيةٍ أفضت إلى توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في أيلول/ سبتمبر من عام 1998.
وأيّاً تكن مبررات كل طرف ومسوّغاته، فإن هذا الأمر يدلّ على أن المصالح الحزبية والسياسات الخاصة الضيقة لدى القوى الكردية الرئيسية يمكن أن تطغى على المصالح القومية العليا، وهو ما قد يجعلها، من حيث تدري أو لا تدري، أداةً في يد الحلفاء أو حتى الخصوم. ذلك أنّ سياسات الدول إنما تحرّكها المصالح وتوازنات القوى وليس التعاطف مع القضايا العادلة أو تأييد حقوق الشعوب. على هذا الأساس، سيكون مفهوماً كيف أن علاقات الولايات المتحدة مع الأكراد كثيراً ما كانت تشهد تقدّماًً أو تراجعاً بدلالة تطوّر علاقة واشنطن مع إحدى الدول المعنية بالقضية، وفي الوقت عينه تنتهج سياسة مختلفة في ما يخصّ حقوق الأكراد في دولة أخرى مجاورة، فضلاً عن متطلبات “الأمن القومي الأمريكي”.
هكذا دعمت الولايات المتحدة أكراد العراق بقوّة في وجه نظام صدّام حسين إلى أن نجحوا في تأسيس إقليم كردستان، واستمرت في دعمهم بعد إسقاطه. أما في تركيا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، فقد اتّسم الموقف الأمريكي حيال القضية الكردية هناك بالتذبذب، حيث أن واشنطن أدرجت “حزب العمال الكردستاني” على قوائم الإرهاب من جهة، ومن جهة أخرى واصلت دعواتها إلى احترام الحقوق الكردية ضمن مساعي دعم جهود الدمقرطة في تركيا.
أما في سوريا، فالأمريكيون أنفسهم بالكاد بدؤوا الالتفات إلى الأكراد السوريين مطلع الألفية الجديدة، بعد صمت مطبق حيالهم طيلة عهد الأسد الأب، ثمّ تغيّر الموقف نتيجة التحولات التي طرأت على المشهد السوري خلال الثورة ثم الحرب السورية، وخاصّةً بعد ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” أو “داعش”، حيث اعتمد الأمريكيون بشكل كبير على جهود المقاتلين الأكراد وقدّموا لهم الدعم العسكري المباشر لقتال التنظيم، وبالفعل أفضى التعاون بين الجانبين إلى هزيمة التنظيم الإرهابي. لكن نهاية التنظيم تبعها تبدّل كبير في علاقة الولايات المتحدة مع الحلفاء الأكراد، وهو ما سمح لتركيا، عدوّ الأكراد الأبرز، بتنفيذ عمليات عسكرية ضدّهم داخل الأراضي السورية، كان آخرها “نبع السلام”.
ما سبق يؤكّد أن القضية الكردية لم تكن في أي وقت شأناً كردياً خالصاً، ويخطئ من يعتقد أنّ بإمكان الأكراد فرض إرادتهم على الآخرين، شأنه شأن من يعتقد بإمكانية فرض إرادة الآخرين عليهم. فالتأثير الحاسم للعوامل الإقليمية والدولية يجعل من الموضوع قضية وطنية بامتياز في سوريا كما في غيرها من الدول المعنية، وهذا يتأتى أيضاً من تباين تجربة النضال الكردي تبعاً لاختلاف ظروف وخصائص تلك الدول. وتطوّر القضية الكردية في كلٍّ منها هو بالضرورة جزء من التحولات التي تصيب البلد المعني، بما لها من نتائج على المستوى الوطني.
إنّ المدخل الأساس الذي لا غنى عنه للتخفّف من عبء العبث الإقليمي والدولي في القضية الكردية، وتالياً فك الكثير من العقد التي لطالما جعلتها عصية على الحل، يكمن في التفاهم وتسوية الخلافات الكردية- الكردية، بالتوازي مع إيجاد صيغ متينة من التعاون والشراكة الفعلية مع بقية شعوب المنطقة، في ضوء المصالح المشتركة.
فإذا كان تشدّد الأنظمة المختلفة في المنطقة حيال الأكراد ورفض الاعتراف بحقوقهم سبباً رئيسياً في معاناتهم وتعثّر قضيّتهم، وهذا صحيح، فالصحيح أيضاً أنّ تشدّدهم حيال شركائهم من شعوب المنطقة، الذين هم بدورهم ضحايا للأنظمة نفسها، لن يكون السبيل إلى حلّ قضيتهم، لاسيما مع كل التعقيدات التي تكتنفها، وهو ما تؤكّده وقائع التجربة التي خيضت في مناطق الجزيرة السورية شرق نهر الفرات، أو “روجافا/غرب كردستان” وفق التسمية الكردية.

Exit mobile version