Site icon مجلة طلعنا عالحرية

عن أشياء لا يمكن تصوّرها

Unthinkable، هو اسم لفيلم أمريكي صدر في العام 2010، ويحكي قصّة خبير عسكري أمريكي متخصّص بالمتفجّرات والقنابل الذريّة. يعتنق الإسلام، بعد أن كان منتدباً للعمل في بلاد إسلامية متفرّقة كالعراق، وأفغانستان، وإيران. ويعتنق معه نظرة عموم العالم الإسلامي تجاه وطنه الأم، أمريكا.

يقرّر الرجل الانتقام من أمريكا، ليس هذا فحسب، بل و إظهار الوجه الحقيقي لها، فيقوم بتجهيز ثلاث قنابل نووية يوزعها على ثلاث ولايات أمريكية، بهدف إيقاع أكبر عدد من الضحايا.. ثمّ يقوم يوسف، وهو الاسم الجديد للأمريكي بعد اعتناقه للإسلام، ببثّ تسجيل يعلن فيه للأمريكيين عن اعتناقه للإسلام، وعن خطّته، وعن مطالب محددة سيعلن عنها في وقت لاحق..

يُعتقل الخبير، ويَحضر متخصّص في التعذيب لانتزاع الاعتراف منه حول أماكن وجود القنابل قبل قدوم موعد انفجارها، و يبدو الفيلم، للوهلة الأولى، كما لو أنّه فيلمٌ كلاسيكيٌ تقدِّم فيه هوليود الإسلام كمثال للوحشية، وتُظهر أمريكا كضحيّة تنتصر في آخر المطاف، كما هو معتاد في هذا النوع من الأفلام الموجّهة.

لكنّ النصف الثاني من الفيلم يأتي صادماً، ومخالفاً للتوقعات، فبينما يعتقد المشاهد أنّ المتّهم هو الذي وقع في قبضة المخابرات الأمريكية، يظهر له بعد ذلك أنّ العكس هو الصحيح، تماماً! إذ يتّضح أنّ المتّهم “الإرهابي” هو المخطِّط لسير الأحداث. وتُظهر مجريات التحقيق، الذي يتحول تدريجياً إلى تعذيب وحشي، أنّ الرجل قد تقصّد عدم التخفّي كي يُسهّل مهمة العثور عليه، وأنّه كان يعلم جيداً بالمصير الذي ينتظره، وكان على أتمّ الاستعداد لذلك أيضاً..

تتصاعد وتيرة التعذيب، ويبدأ تقطيع أصابع المتهم الواحد تلو الآخر، مع جرعات متناوبة من الكهرباء والإرهاق، وبقيّة ممارسات التعذيب التي تجري على يد خبير متخصّص في انتزاع الاعترافات، والأعضاء أيضاً..

ومشهد التحقيق هذا، بوحشيّته، يشكل محور القصّة؛ ففيه يظهر المتهم مستعداً جيداً لتلقّي أشدّ أنواع التعذيب. يظهر أيضاً وجه أمريكا المضيء، ممثلاً بعميلة الإف بي آي، والتي تعجز عن إيقاف آلة التعذيب الوحشية، ممثّلة بالمتخصّص التابع للسي آي إي..

لم تكن احتمالات التعذيب غائبة في الأصل عن حسابات المتهم، بل اتضح أنّها كانت أداة في يده، وهو الذي أختار أن يكون في مكانه ذاك على كرسي التعذيب، ليُظهر أمام الأمريكيين الذين يشهدون مذبحه، الوجه الحقيقي لأمريكا؛ أمريكا المستعدّة لفعل ذات الأفعال الوحشيّة التي تعيب على الآخرين فعلها، إن شعرت بالتهديد.. فقد تفعل ذلك مع مواطنيها إن تطلب الأمر، بعد نزع صفة المواطنة عنهم، وانتزاع كامل حقوقهم الدستورية والإنسانية معها..

تطلب العميلة من المتهم إثبات جدّيته، وصدق ادّعاءاته المتعلّقة بتلك القنابل، ويحقّق لها ذلك، ولكنّ ذلك سيكلّف سقوط 53 ضحيّة، بينهم أطفال ونساء. وهنا ينقلب الوجه الأمريكي الناعم إلى وجه آخر، وحشي وعنيف. تمسك العميلة بيدها سكين الذبح وتبدأ بغرز رأسها في جلد الإرهابي، الضحيّة هنا..

وهنا يحدث حوار تختلط فيه الأدوار بين المجرم والضحيّة. يقول المجرم “الضحيّة”:

أتقولون إنني همجي؟ إذاً ماذا تكونون أنتم؟ وتنتظرون منّي الحزن على موت 50 مدني؟ وأنتم تقتلون هذا العدد في كل يوم…

ثمّة مشاعر متخبّطة لا بدّ وأنّ تشعر بها إن شاهدت القصّة قبل الثورات العربية؛ لا بدّ وأنّك تقمّصت الشخصية الأمريكية المهدّدة بالإرهاب، ثمّ لم تلبث أن تقمّصت شخصية الإرهابي الذي حوّله التعذيب الهمجي إلى ضحيّة، ثمّ تفاعلت مع من تمثل الوجه القانوني لأمريكا، ثم عدت إلى صفّ الضحيّة “المجرم سابقاً” وتعاطفت معه في وجه من يمثّل آلة التعذيب الأمريكيّة، ثم اكتشفت من السياق أنّ الوحش المتخصص بالتعذيب ما هو في الأصل سوى سجين ملاحق، ولا يملك الخيار، ولا يستطيع تبديلاً..

ولكن حين تعيد مشاهدة الفيلم في عصر الثورات، تحديداً بعد مرور أكثر من خمس سنوات على الثورة السورية، فإنّ التفاعل على المستوى الشعوري لن يكون كما كان عليه في المرّة الأولى.. ومن غير الممكن أن تمرّ على أحداثه بدون مقارنة مع الواقع المرعب..

فيما سبق، كان لمشاهد التحقيق والتعذيب الهوليودية تأثير مهول على من لم يعاني تجربة الاعتقال في أقبية المخابرات السوريّة، أو لم يرَ، أو يقرأ شيئاً عنها. لكن بعد الثورة السورية أصبحت تلك المشاهد: لا شيء، حرفياً! مقارنة بما جري ويجري في سوريا.

هل كان أسوأ مشهد رأيناه في الفيلم المؤثّر هو مشهد تقطيع الأصابع؟ أم قطع العضو الذكري للمتهم؟ أم اللسعات الكهربائيّة والإرهاب النفسي؟

أليست هذه المشاهد نذراً يسيراً ممّا رأته أعين الأمهات والآباء على أجساد أولادهم بعد استلامهم للجثامين، أو ما بقي منها؟

فهل ننسى علامات الحقد على جسد الشاب غياث مطر، و آثار الهمجية على جسد الطفل حمزة الخطيب، وما رأيناه في آلاف الصور التي سرّبت لضحايا أقبية الشيطان..

أم أنّ أقسى المشاهد كان مشهد ذبح زوجة المتهم أمام عينيه؟ أم محاولة قتل أطفاله كخيار أخير؟

هل نذكر هنا مشهد الرجل الحلبي الذي كانت عناصر من جيش الأسد يساومونه على رؤية أطفاله، مقابل السماح لهم باغتصاب زوجته، وكيف كان يجيبهم بعبارة تعجز هوليود عن الإتيان بمثلها: “مرتي روحي.. بنت عمي وتاج راسي”… إلى أن قُتل سحلاً بين الأقدام..

أم نذكر، على سبيل المقارنة اللاشعورية، آلاف اللواتي اغتصبن في أقبية التعذيب، أو أثناء المداهمات، أو اللواتي قتلن بعد اغتصابهنّ أمام أعين الآباء و الأمّهات، أم نذكر كيف ذُبح العشرات من أطفال الحولة، ومثلهنّ في مجزرة بانياس، وأكثر من هذا العدد في مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقيّة؟!

لا مناص من الاعتراف بأنّ هوليود قد فقدت جزءاً كبيراً من متابعيها في شرقنا الحزين، ولم يعد لمشاهدها القاسية تلك القدرة على رفع منسوب الأدرينالين في عروقنا. لقد فقدت أجسادنا ميزة القشعريرة أمام هول المشهد. حتى شعور الحقد الذي كان ينتابنا تجاه ممثّل الشرّ، أو آلة التعذيب، لم يعد كما كان في السابق..

للأسف، ما حدث في سوريا تجاوز حدود الخيال الإجراميّ في هوليود. فالتعذيب، الذي تبرّره القصّة بالخطر الوجودي الذي يهدّد الشعب الأمريكي ككل، لم يكن له ما يبرّره على الإطلاق في حالة شعب لم يطلب بادئ الأمر أكثر من الإصلاح ومزيد من الحريات السياسيّة، فكان التعذيب الممنهج موجهاً ضدّ أكثريّة الشعب للحفاظ على فئة حاكمة، وليس للحفاظ على استقرار الشعب أو الأمّة.. كما في القصّة…

ولكن، ثمّة مفارقة غريبة في تشابه مآلات التعذيب.. ثمّة نهايات متشابهة جمعت بين ما لا يمكن تصوّره في القصّة وبين الأشياء التي لا يمكن تصوّرها في الواقع؛ ففي القصّة الهوليودية أفلح التعذيب الجسديّ، والنفسيّ: ذبح الزوجة ومحاولة قتل الأطفال، في انتزاع الاعتراف بمكان القنابل النووية الثلاث. إلّا أنّ المتّهم استطاع الانتصار على جلّاده آخر الأمر، فقد انتحر قبل أن يُنتزع منه الاعتراف بوجود القنبلة الرابعة، والتي يصل عدادها إلى الصفر مع اللحظة الأخيرة للقصّة..

سقط التعذيب، وانتصر الإرهابي، أو الضحيّة، لا فرق!

وكذلك الأمر في المذبحة السوريّة، فلقد أفلحت أصناف التعذيب، التي مورست في ظلمات أقبية المخابرات، في انتزاع الكثير من الاعترافات من أجسادٍ على حافّة الموت، لكنّ آلة جهنّم أوصلت عدّاد القنبلة البشريّة إلى الصفر أيضاً.. كانت تلك لحظة انتهاء الثورة السلميّة التي تمّ معها قطع شعرة معاوية، بل و أطرافه أيضاً..

أمّا ما تبقّى من قصّتنا، فنحن نعيشه اليوم..

Exit mobile version