Site icon مجلة طلعنا عالحرية

عندما هتف محمد: الشعب يريد…

يوسف صادق

عندما هتف محمد: الشعب يريد.. إسقاط النظام، كان أكثر من سوريٍّ.. محمدٌ خرج من صوره وانتماءاته ليعلن أنّه الشعب.. كان فلسطيني الذاكرة والوشم، سوريّ الغربة والانتماء.. حيفا والقدس حكايات لم يعشها، بينما درويش حاضرٌ بتفاصيل كلامه، هو للأزرق.. بينما ينهض من الرمال، هو تفاصيل الوحشة في مخيمات فلسطين واليرموك وجرمانا والحسينية وحجيرة.. بينما تسرقه الهافانا والنوفرة وتأسره في الأضواء والنداءات والروائح البعيدة…
هتف محمد ليجمع الأضداد، والصور الكلاسيكية البائسة، لمجتمعٍ أراده؛ يختصر فيه الإنسان المنّمط بخارطات السياسة والجغرافيا.. هتف ليحيي وحشة المخيمات في خاصرة دمشق منذ عقودٍ والخواء يخنقها، كيفما مالت دمشق ورقص حكّامها..
محمد ابن حجيرة، قدرها ضجيج الأولاد في مهب ريح الشتات، هل استجارت بالسيدة؟ أم أنّ السيدة استجارت بشعبٍ مشتت لتبني على أحلامه أحلامَ مَنْ ماتوا منذ مئات السنين.
بدأ الزحف بسوقٍ كبيرٍ، جمع شتات المهجّرين العراقيين، ولم يكن بعد سوقاً لمآرب السياسة، هذا المكان كما غيره في الجغرافيا السورية، زحفت إليه مقامات السياسة واستوطنته.
محمد كما غيره من المهجّرين الفلسطينيين رحّب بمهجّرين من أمثاله، وكلنا غرباء؛ كلّ السوريين غرباء في سوريا. قدرهم مخيمات المدن والنزوح، قدرهم عتمة وضجيج أولاد يملأ الطرقات، قدرهم أعمال دون ونظرةٌ دونيّة، وجنسية مؤقتة، حقوقهم في الدرجة الثانية، أما واجباتهم فتتساوى مع واجبات السوريين المقهورين، قدرهم أن يُتاجر بأحلامهم بمعسكرات الصاعقة، والزّج بهم في مناطق التوتر بلبنان وليبيا، وليس آخرها سوريا، قدرهم كما أراده جبريل وغيره من أمراء الحرب في سوريا والضفة والقطاع أن يكونوا حرساً على ممالك الضياع، وكما تُدار هذه في غزة والضفة، تُدار في الشتات، ويدفع أبناؤها أثمان أحلامهم بالعودة إلى القدس.
محمد كما غيره رفض غرباته، رفض أضداده، رفض صوره المشوّهة، رفض عين البندقية، حينما ينظر منها ملكٌ أو مُستبدّ أو مُتديّن.
الشعب يعني إرادة الجماهير المهمّشة في الحواري المُساقة في قطعان الأحزاب والزعامات، الشعب يعني لمحمد عودة القانون والسياسة للمجتمع، عبر نهضة ثقافية لا تحدّها الجغرافيا السياسية. كان يتابع الجابري في أبحاثه بالتراث العربي، ويقول: “يلزمنا الحفر عميقاً”.. كان يتابع البرقاوي والعظم ويقول: “يلزمنا مشروعاً نهضوياً شاملاً”.
هذا الدرويش عرف أنّ الغربة تساوي تسميات الدول العربية تحت أحكام السلاطين والزعماء، عرف أنّ القواسم المشتركة بينهم واحدةٌ، ولا فرق إلّا بأسماء الطغاة.
محمدٌ كان سوريّاً فلسطينيّاً عربيّاً إنساناً.. هتف ضد طاغيةٍ يقتسم إحدى جهات الجغرافيا، كما اقتسمت الشعوب جهات الشتات والغربة. كان حلمه في أيام الجامعة هو العودة للقدس، وبعد الثورة السورية صار مثل أيّ شاب يحنّ لغربةٍ أخرى.
محمدٌ وصل للقارة العجوز ليكمل غربته هناك، اتصل بي يوماً ليقول إنّه يودّ مشاركة أحد جمالَ منظرٍ رآه.. ولم يستطع الاستمتاع به. هو هنا معنا مع أهله، مع قلقه مع غربتنا، هو هناك صدىً لم تتعرّف الشوارع والأضواء عليه.. لم تستمع لنداءات الروح، وعذابات المدن التي يحملها تحت نظارته البنيّة، نظارته هناك وعيونه لم تغادر دمشق ومخيّماتها، يرى في عتمتها آلاف الحكايا، مسافة بلا هدف، زمنٌ يغالب انكسار المرايا، معنىً يغالب الكلمات ليحيا في كلامٍ رتيب.. هنا الوجود مقذوف في همجية الصوت، وفضيحة الضوء حينما يغادر دمشق.
أيهما فضيحة الآخر؟ أضواء تزيّن الصمت في الشوارع، أم أضواء بثياب رثّة منذورة لشموس لا تتسع لها الطرقات، ولا جوارب الأحزاب، ولا الكلام المُستهلك في المدائح والمراثي!..
ترك محمدٌ لي كتبه التي يحبّ، هي ما استطاع إنقاذه من مخيمات الشتات، ترك لي حوارات الشموع، وضجيج الأولاد في الحارات، ورحل إلى بلاد الصقيع. ترك لي درويشاً ليؤنسني، ليذكّرني أنّه حيث نجد المعنى يكون الوطن.. وحيث تحتفظ الظلال بدفء مَن غادروا تكون الذاكرة.
محمد تجاوز صدى الأمكنة، تجاوز تقاليد المقهورين، محمدٌ الإنسان أحبّ نظيره في المياه الجارية.. فحاربته القبائل مرّات، وسلّطت سكاكينها على وشمه وقلبه.
أحبَّ كفلسطيني ثائر، بعطاء الخليل وكروم يافا، العشق روح الانتماء والأرض وقدر السحاب أن يهاجر.. محمد حياته اختياره وتحقيق المعنى عنوانها وظلاله الدائمة الوارفة حيث خطا..
كما غيره من الفلسطينيين ممّن بحثوا عن انتماء عربي، فلم يجدوه في لبنان أو سوريا أو ليبيا أو تونس أو الأردن… رفض الولاءات كما غيره لأجل تأشيرة عبور، رفض أن يحمل فلسطين إلى قصور المؤتمرات والمزايدات. ذاك الدرويش ابن تناقضاته، بل أكبر منها.. هو الغريب والمنتمي للشتات والمخيمات، هو الابن والعاقّ للفقر والبؤس في بيوت الصفيح، هو المتمرّد على عادات القبيلة، وهو الصوفيّ في حروب الأفكار ومعارك الكلام المدرّع بالحديد، هو ابن ماضٍ لم يعشه سوى وشماً، وابن حاضر لم يعشه سوى رغبة، محمد ابن مستقبلٍ وعد به الجليل وبيارات أم سعد وزيتون القدس، وكل إرادة ما تزال تحمل المفتاح لبيت تذكره يدان متعبتان.
محمدٌ رفض المظلومية وفضّل صخب الأولاد في حجيرة على صخب الكاميرات والأخبار العاجلة، حسبه كما درويش يرى ما يريد، حسبه الريح بيده حنونة في المخيّمات، مجنونةٌ في شوارع الأضواء الباردة.. حسبه وقدره أنّه إنسان انتمى إلى فكرةٍ في الشتات.
خيار الفلسطيني حجرٌ أو قصيدة في المنفى.. خياره خارج خارطات أوسلو وخارج عقود الاستثمار مذ خرج أول فلسطيني من أرضه..
طوبى لمَن حمل فكرة المعنى أينما انوجد، طوبى لمَن انتمى للريح والشمس، طوبى لمَن جعل الذاكرة حياة يدحرجها أمامه، وصخباً يملأ الطفولة، طوبى لك.. محمد!

Exit mobile version