مذ شاهدت إيلان يغفو على شاطئ مدينة ما، وأنا أسأل أمي كل يوم: لماذا لم نذهب معهم يا أمي، كنا لعبنا معاً على الشاطئ ومن ثم غفونا سوية؟.
تنهمر الدمعة من عينيها، تضمني، وتقول: “بعيد الشر عنك”..
اليوم، جنحت الأسئلة وشُدِهت عين أمي، فلا أنا تكلمت ولا هي بكت! لا أعلم لماذا تنتشر صورتي في مجلاّت العالم وجرائدها ونشراتها الإخبارية! هل بتّ قائد أمةٍ أم بطل حربٍ؟
لا أدرك المعنى أبداً، لكن إيلان قد يرى صورتي فيعود لنلعب سوية. سأقول له لا تخف من هذا اللون الأحمر اللزج الذي يسيل على وجهي، فأنا أغسل وجهي جيداً، أنظف أسناني حتى تلمع، لكن لم أكن أظن يوماً أنها ستكون يوماً هدف طيار أعمى وقذائفه. يا إيلان، سرحت شعري ورتبته، لحظة هممت للخروج لضوء الشمس ورشاقةُ الصبحٍ تغري قدمي، ناوياً الخروج للّعب في الحديقة، أطبقت العتمة عليّ من كل جهة، وملأ أنفي زكام غبار كثيف وسيل من ركام جبل!
من أنتم؟ أنا لا أعرفكم، أما أنا؛ فأنا عمران وعمري خمسة أعوام، و لازلت حياً، بعد أن غادرني إيلان قبل عامٍ مضى، لكنني توقفت عن ترديد كلماتكم، وتحشرجت الحروف في حنجرتي، واليوم هجرت لغتكم أبداً، “فلكم لغتكم ولي لغتي”. قلقكم واستنكاركم مجرد حروف أستهجنها، فأبداً لم تستطع إيقاف الصواريخ من الانهمار على حينا، ولا البراميل من اجتياح حديقتنا! حديقة الحي التي كلما تعاونت ورفاقي على تنظيفها، انهالت عليها قنابل وبراميل. ونعيد الكرة، نعاود اللعب فيها وتعلو أصوات ضحكاتنا على صوت الضجيج وهدير الطائرات، فلماذا لا تسمعونها؟
لا تظنوا أنا نجري خوفاً من الطائرات، فقد اعتدنا منها أن تملأ سماءنا بدل الطيور والعصافير! فقط، نحن نجري كل منا تجاه أمه يخبرها أنه حيٌ و لم تطله قذيفة أو برميل، ولم يغفو بعد كما إيلان!
وعدتك ألا تبكي يا أمي، لا أحب أن تذرفي المزيد من الدموع، فابتسامتك فيض حنان، وبريق عينيك يغرينى كي أكبر وأغدو أجمل، فأصبح قادراً على التغلب على جوعنا وبأسنا اليومي المطبق علينا مذ ولدت. يا أمي هكذا أردت أن أحميك من وجعك ومن خوفك المستدام لكن..
أنا عمران ابن حلب، حلب التي تتكلمون عنها في الصحف ونشرات الأخبار واجتماعات الدول وغرف العمليات، حلب التي لم تبق يد آثمة في الكون ومن كل أصناف شذاذ الآفاق إلا وامتدت إليها لتقتلنا! وطالما سألت أمي وهي لا تجيب: لماذا لا يحبوننا يا أمي؟ ما الجريمة التي ارتكبتها ليأمروا بقتلي؟ أنا أحب العصافير وكل أنواع الطيور، أنا أحب الأزهار والفراشات وأهتم بها وأعتني بكلاب الحارة وقططها، أرتب سريري كل صباح وأغسل يدي قبل كل طعام وأنظف أسناني قبل النوم، أنا لم أسرق يا أمي ولم أكذب يوماً.. ألم يعلمونا في المدرسة أن الأطفال كنز الحياة وزينتها؟ وأننا حاضر سوريا ومستقبلها فلماذا يسموننا إرهابيين؟!
قبل أعوام نجوت وأصحابي من السمّ الأصفر الذي انهمر علينا، هل تذكرين؟ هل تتذكرون؟ يومها ظننت أن المطر بات أصفراً بلون أوراق القمح في موسم الحصاد، فالقمح في هذا الموعد من العام يكون قد تم جنيه وبات مخزناً في المنازل لشتاء قارص، يبعث البهجة في نفس أبي وأمي، ولربما ابتسامتهما الصفراوية كانت تعكس لون القمح أيضاً! أنا لا أعلم لماذا يقولون عن ابتسامة عدم الرضا هذه بالصفراوية؟ ألانها تشبه السمّ الأصفر؟ ولماذا يبتسم أبي بذلك اللون رغم تأمين الموسم؟ أتراه يقول في نفسه: “أمنّا الخبز لكن كيف سنؤمن الماء وكيف سنتقي مطر المدافع ووابل الطائرات..”؟ و لازلت أتساءل، هل الأصفر هو نهاية حياة كانت خضراء مزدانة بالفرح؟
أتعلمون أن صمتكم قتلني مرات ومرات، فرغم أني شعرت بالاختناق لكن أقوالكم المزينة بمشاعر هلامية خنقتني أكثر، أنا لا أكذب ولم أكذب يوماً، وأنتم كل يوم تكذبون على أطفالكم وعالمكم حين تصفوننا نحن الأطفال، بالإرهابيين وتبيحون قتلنا اليومي!
سأصمت عن قولٍ، فصمتي ليس عجزاً، ولا فراغ نظرتي، لن أجيب عن أسئلتكم، ولن أقول لكم من هو قاتلي، فمحاكمكم وقضاؤكم يعرفونه أكثر مني، بل تتسترون عليه عنوةً ولغاية في نفس يعقوب. وأنا مازلت بريئاً من أي ذنب كبراءة الذئب من دم يوسف. سأترك قلقكم يأخذكم إلى ما لانهاية، وسأترك لكم فتح معاهد جديدة في التحليل النفسي وعلوم السياسة والقانون الدولي لتجيبوا عن أسئلة العلم الحديث: لماذا عمران لا يتكلم؟ لمَ هو مصدوم؟ ما المعنى النفسي لنظراته الشاردة تلك؟ هل يفهم ما يجري حوله؟ هل خرقت الطائرة التي قصفت بيته الهدنة؟ وهل انتهكت قواعد الاشتباك المعلنة بين أمريكيا وروسيا؟ هل كان يحمل سلاحاً لإسقاط الطائرات وخرق باستخدامه القانون الدولي؟ سأترك لكم أسئلتكم بلا إجابة فهي أسئلة صعبة علي، لكني سأسألكم علكم تجيبوني:
- هل تذكرون حمزة؟ من ثقب جسده بمثقب الكهرباء وأعاده لأهله جثة هامدة؟
- هل تتذكرون هاجر وأحمد وغياث و سلمى وآلاف الأطفال مثلي؟ لماذا قتلوا فرادى وجماعات؟
- أين إيلان، ولماذا غفا طويلاً على شاطئ ما؟ هل تعلمون أنّا كنا نلعب سوية كل صباح، وكنا نحلم أن نكبر معاً و أن نبني معاً، سأصارحكم بأنه هرب من الموت هنا، فمات هناك على شاطئ هجرة شاهد على موتنا الجماعي، وأنا بقيت ولازلت أنتظر موتاً ما، فهل من سبيل لديكم خلاف ذلك يا سادة؟
- هل أنا من أسعى لانقراض الطائر أبو منجل في بادية الشام؟ وهل حياته أهم مني ومن رفاقي لتدفع له الأمم المتحدة في برنامجها العالمي لإنقاذ الطيور المنقرضة وتوافق على انقراضنا كل يوم؟
- لماذا يجتمع العالم على قتلي؟ ألم يخبر أطفال روسيا بوتين وجنرالاته، يوماً، أن أطفال ستالينغراد كانوا مثلي ذات يوم، ذات حصار وموت؟
- ماذا تراها ستفعل مراكز بحثكم العلمية والسياسية والاقتصادية وعلوم التقنية الحديثة في تفسير مسار الدم الحار على وجنتي؟ ولماذا بقيت حياً ولم أمت؟ بينما مات أخي ولم أستطع بكاءه؟
- لماذا تعتقدون أن أطفالكم فقط هم الأطفال، وأني ابن سبعين عاماً مثلاً؟!
أنا ابن المئة عامٍ وعام يا سادة، أنا من تيبست روحه وجفلت الكلمات منه، أنا وجع الصمت المرّ وأنين الموت في الشرايين، أنا ضحية إجرامكم الطويل وحبكم في مشاهدة أفلام الرعب القاتل ولعق الدماء، أنا لا أستطيع لعنكم، فلم أتعلم ثقافة اللعن والكراهية، ولا يمكنني أن أتمنى الموت لقاتلي، فأنا أبن الحضارة التي تريدون إزالتها من الوجود، أنا طفولة سوريا التي تتمنون صمتها عن جريمة العصر. ربما إنسانيتكم المفرطة تمنعكم من متابعة مشاهد بؤسنا اليومي وموتنا اليومي وجريمة أسيادكم اليومية فينا! سأتابع صمتي فإن عذبكم وأقلق نومكم وحارت به منظماتكم ومجتمعاتكم الحقوقية والإنسانية فلم يكن أبداً ذنبي، فأنا لم أنوي يوماً أذية حتى نملة. هو ذنب اللغة وعجزها، ذنب الصمم الأبكم وعجز نطقكم أيضاً! و لربما كان ذنبي الوحيد أني ولدت سورياً، ولدت حيث تصنع آلة القتل والتدمير مواكب المهجرين إلى كل شتات الأرض وطريق الراحلين في رحلة جنائزية طويلة، والباقون منا يعزفون لعنة الصمت المر.
صمتي ليس موقفاً وفقط، ولن أخطب “خطبة الهندي الأحمر الأخيرة” ولن أسأل عن المتبقي فينا، صمتي تحفة أثرية لتحتفظوا بها في متاحفكم التاريخية، في اللوفر، في الساحات الحمراء، بجوار تمثال الحرية، في متاحف نصركم في حروبكم الوطنية! حتى إذا مرّ الزائرون يوماً ولفت انتباههم تمثالي، وقرؤوا ما كتب على لوحتي بلون برونزي مخضب:
“هذا مصير أطفال سوريا، وثمن صرخات الحرية”.. غرقوا، كما غرقتم مثلي في صمتٍ الأبدي.. - نشرت هذه الكلمات لأول مرة في مجلة ذوات العدد 30, مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المغرب، 11/2016، واليوم زاد عمر عمران خمس سنوات، وهرمت أنا ومثلي كثرُ، ولا زالت الجريمة مستمرة والذهول يملأ القلوب قبل العيون والعالم يطبق في صمته الأبدي..