ربما لا يوجد فلسطيني طغت فيه سوريته على فلسطينيته مثل علي الشهابي. رغم معرفتي بعديد من الشباب الفلسطينيين، الذين اشتغلوا وفق قناعة مفادها أنه لا يوجد، في سوريا، ما يميّز الفلسطيني عن السوري وبالعكس، إذ أنهم سواء، في كل شيء، في نمط المعيشة، والعادات، والثقافة، وفي الخضوع لذات الظروف القهرية: السياسية والأمنية والاقتصادية، وفي الآلام والآمال، وحتى في الشعار المدرسي: “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”.
اللافت أن علي ظلّ على هذا الرأي، إلى لحظة اعتقاله في المرة الأخيرة في 2012، إذ أنه اعتقل قبلها عدة مرات، الأولى في أواسط السبعينيات، لتسعة أشهر، والثانية استمرت عقد من الزمان (1982ـ1992)، والثالثة في أواسط 2006، وقد استمرت لسبعة أشهر، بمعنى أن هذه هي المرة الرابعة، وبات له الآن ثلاثة أعوام، دون أن يعرف أحد عنه شيئاً.
قصة علي، الفلسطيني السوري، أو السوري الفلسطيني، الكاتب والأستاذ وصاحب الرأي، تحيلنا إلى حكايات السجون في سوريا، وهي هنا تشمل أقبية فروع المخابرات، والسجون المختلفة، وكلها لا تخضع لأي قوانين أو معايير، إلى درجة أنه لا يمكن تصور الأهوال التي يختبرها المعتقلون، أو المنسيون، في هذه السجون. إذ عدا عن الحرمان من المحاكمات، أو تعريضهم لمحاكمات صورية، ثمة أنماط من التعذيب والعقاب الجماعي في السجون إلى درجة أن مجرد السماع بها، أو تخيلها، أو قراءتها على نحو ماجاء في رواية “القوقعة” (لمصطفى خليفة)، يمكن أن تخلق عند أي إنسان صدمات نفسية يصعب التخلص منها.
أما فكرة الاعتقال عدة مرات فهي بذاتها قصة معذبة، وتنم عن ظلم لا حدود له، لاسيما إذا علمنا أن هذه قصة مئات وربما ألوف من الشباب، أيضاً، الذين جعلت منهم الدولة الأمنية، أو السلطة، عبرة للآخرين، في بلد حكم بوسائل الخوف والفساد والتسلط والاستبداد، لأربعة عقود.
ما يفاقم من مأساوية هذه القصص أن هؤلاء المعتقلين لم يمارسوا أي فعل عنف، بل أنهم حتى لم يلوحوا ولا مرة بإمكان استخدام العنف، إذا أتيح لهم. أي أن علي الشهابي لم يعتقل لا في المرة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة على أي مسألة تتعلق باستهداف النظام بواسطة أي نوع من القوة، على الإطلاق، وإنما اعتقل لمجرد الرأي، وهذا شأن الوف الشبان من هذا الجيل، الذين دفع معظمهم أجمل سني عمره في السجون.
تعود معرفتي بعلي الشهابي إلى أواخر السبعينيات، حيث زارني برفقة صديق مشترك (ح.ش) كان يدرس حينها في جامعة حلب، وذلك في أول بيت أسكنه في مخيم اليرموك. وقتها كنت في إطار حركة فتح، في حين كان علي شاباً يسارياً، مفعماً بالحماس، وله انتقادات كثيرة وقاسية على الحركة الوطنية الفلسطينية. ولعل ماجمع بيننا ميلي إلى الفكرة اليسارية، واحتسابي على التيار الديمقراطي أو النقدي في حركة فتح، آنذاك. لكن عدم ميلي، في تلك الفترة، لاشتغال الفلسطيني في الشأن السوري، جعل هذا التعارف يقتصر على لقاءات متفرقة بين فترات متباعدة.
بعد هذا التعارف أخذ علي إلى السجن (1982)، مرة ثانية، ووقتها لم تحترم أجهزة المخابرات وجوده في قاعة الصف في المدرسة، إذ تم أخذه عنوة منها، أمام تلاميذه، علماً أنها مدرسة تابعة للأمم المتحدة (وكالة الغوث)، وهكذا غاب لأعوام عشر.
بعد خروجه من السجن أتيح لي التعرف عليه أكثر من ذي قبل، لاسيما أنني في تلك الفترة كنت تركت العمل الفلسطيني نهائياً، وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت المشتركات بيننا أكثر من ذي قبل. مع ذلك فإنني بقيت أحاذر العمل في إطار المعارضة السورية، وكنت أعطي الأولوية للعمل الفلسطيني، رغم معرفتي بطبيعة النظام، في حين ظلّ علي يؤكد على المشتركات، وأنه لا يمكن لعمل فلسطيني أن يتطور بدون تطور الحالة في سوريا.
على أي حال ففي تلك الفترة انشغل علي بمشروعه التعليمي، في معهد اللغة الانلكيزية الذي أعطاه جزءاً كبيراً من وقته، وهو مشروع عمل، لكنه أفاد شباب المخيم كثيراً، بفضل الوسائل التي اعتمدها. في 2006 صدر عن علي بعض المبادرات اللافتة للانتباه، إذ أنه بدأ يطرح أوراق عمل تخصّ الوضع السوري، وبات يبحث، بكل جرأة، عن منابر لتقديمها، عبر وزارة الإعلام، ومدرج مكتبة الأسد، وغير ذلك. في تلك الآونة، صارحت علي، ربما مثل غيري، بخشيتي عليه من أجهزة الأمن التي لن تتركه في حاله، وبأن الوضع غير مناسب لطرح وجهات نظر، لاسيما أن هذا نظام لا يقبل الحوار، بخاصة ولدينا تجربة ربيع دمشق، والمآلات المأساوية لها.
هكذا تم اعتقال علي للمرة الثالثة، حيث أفرج عنه بعد ستة أشهر. وعندما زرته في البيت للتهنئة بسلامته، سألته ألم تتعب منهم، أو يتعبوا منك؟ ثم ألم يقولوا لك هذه المرة، أنت كفلسطيني ما شأنك بنا؟ ضحك علي، وقال: فعلاً، هذه المرة قالوها.
بعد خروجه من السجن واصل علي عمله في التدريس، وأيضاً في الكتابة، إذ بات يكتب في جريدة الحياة مقالات سياسية عن الوضع السوري، كما بات يكتب آراءه ويوزعها على الأصدقاء، عبر البريد الإلكتروني.
وعندما اندلعت الثورة السورية وجد فيها علي فرصته لطرح آرائه في كيفية التغيير الديمقراطي، في سوريا، مع كل المخاوف التي كانت تنتابه من بعض المظاهر التي كان يرى أنها تهدد مسار هذه الثورة، ومسار التغيير الديمقراطي. أما بخصوص قضية الفلسطينيين فقد كان رأيه أن الفلسطيني في هذه الحال هو كالسوري.. وقد كتب في ذلك ورقة وزعها على الأصدقاء.
يوم 17 من هذا الشهر، قبل ثلاثة أعوام، اعتقل علي، وكان خبراً موجعاً، على زوجته وأخواته وعلى رفاقه ومعارفه. قصة علي، هي ذات قصة د. عبد العزيز الخير والمحامي خليل معتوق ورزان زيتونة وسميرة الخليل وفائق المير، وناظم ووائل وكل الأحبة..
تحية لروح الحرية، التي لم تضعفها سنوات السجن الطويلة، في قلب علي الشهابي.. تحية لفلسطينيته وسوريته.. ففلسطين ليست مجرد قطعة أرض، فهي معنى للحرية أيضاً..