الكتاب: الدين والعلمانية في سياق تاريخي.
الكاتب: عزمي بشارة.
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
عرض: د. محمد رشدي شربجي
يدرس الجزء الأول من الكتاب والذي يحمل عنواناً فرعياً هو (الدين والتدين), العلاقة بين أنماط التدين والديمقراطية، مبتعداً عن الثنائية الرائجة التي تدرس العلاقة بين الإسلام والديمقراطية؛ حيث يقول الكاتب في مقدمة كتابه إن “الإشكالية بين الإسلام والديمقراطية هي إشكالية وهمية, وليس هنالك ما يستحق دراسته في هذا المجال, ولا في الإشكالية بين الديمقراطية والمسيحية أو اليهودية” وإنما يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها أنه لفهم نمط التدين في مجتمع من المجتمعات فعلينا أن نفهم سيرورة العلمنة التي تعرض لها هذا المجتمع, وبالعكس لكي نفهم نمط العلمنة في هذا المجتمع علينا أن ندرس نمط التدين الموجود في هذا المجتمع, وهكذا يربط الكاتب بين دراسة كلا الموضوعين معتبراً أن فهم أحدهما يشكل مدخلاً لفهم الآخر.
يقع الكتاب في فصول خمسة:
في الفصل الأول يحاول الكاتب تمييز الدين عن المقدس والأسطورة والأخلاق, قائلاً بأن الدين يحتوي كل هذا ولكن لا يمكن اختزاله بهذه العناصر, فيقول “إن الدين لا يقوم بدون الشعور بالمقدس, ولكنه لا يمكن اختزاله بهذه الناحية, فما يميز التجربة الدينية من تجربة المقدس عموماً أنها تجربة إيمانية تقوم على الإيمان بالغيب أو تؤدي إليه” ص19 “حيث أن ملكة الانفعال بالمقدس هي الملكة ذاتها التي تجعل الإنسان ينفعل بالجمال أو بالسامي والنبيل, ولكن ما يميز الدين أنه يضيف لها بعدا إيمانياً ومؤسساتياً تنظيميا” ص21 .
ويقول “إن الأسطورة هي التعبير المعرفي الأول عن المقدس, وأن العقيدة هي التعبير الثاني, وفي أن الحدود بينهما ليست واضحة, وفي أن العلم ينفي الأسطورة, أما العلمنة في حد ذاتها فلا تنفيها بالضرورة” ص57 .
ولا يقصد الكاتب هنا بالأسطورة المعنى الشائع من كونها خرافة أو خزعبلات, وإنما يراها مكوناً حضارياً في لأي مجتمع من المجتمعات, وهي حكاية وسردية, وغالباً لها بداية ونهاية, مثل أسطورة الخلق.
“فغالباً ما يعتبر العلمانيون الدين مجموعة أساطير (بمعنى خرافات), تماماً كما يعتبر المؤمنون روايات الديانات الأخرى وسردياتها أباطيل وأساطير. لكن الدين لا يقتصر على الأسطورة, ولا يحتلّ القصص الديني الأسطوري الحيز نفسه الذي احتله عند المتدين في الماضي” ص95 .
وفي علاقة الأخلاق بالدين وهي العلاقة الأكثر تعقيداً: “يصعب فصل الدين عن طاعة ما يمليه، ولكن لا بدّ من التعامل معه (الدين) كظاهرة باتت مختلفة عن الأخلاق”
في الفصل الثاني يناقش الكاتب التدين حيث يعتبر أنه لا إمكانية لإقامة دين من دون تدين فيقول: إن “التجربة الدينية هي أساس الدين إذا تجاوزت تجربة المقدس إلى التجربة الدينية” ص173 .
“…فلولا هذا التحول الجدلي من عاصفة التجربة الدينية إلى عادة السكينة الدينية ومنواليتها, لما قامت للدين قائمة” ص186.
كما يميز الكاتب بين الإيمان المعرفي وهو الاعتقاد وعكسه الشكّ, وبين الإيمان المطلق (العرفان) وعكسه الكفر, والجمل الإيمانية الاعتقادية لا تدحض بالعلم بل تتزعزع بتغير البيئة المعرفية. ص189.
ويخصص بشارة الفصل الثالث في كتابه لدحض نظريات نقد الدين التي يعدها بعض المنظرين العرب جهداً تنويرياً تقدمياً, فيقول “إن الدين ليس خرافات أو أفكار مغلوطة شائعة, والإلحاد ليس نظرية علمية” ص245. ثم يناقش آراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع في هذا الموضوع وينتهي لخلاصة فيقول: “لا شك في أن آباء علم الاجتماع عموماً لم ينظروا إلى الدين باعتباره خرافات أو موضوعاً هامشياً, إذ رؤوا أن الدين عنصر اجتماعي دمجي أساسي في التحولات السريعة الجارية في أوروبا, أي أنه يساهم في بلورة الجماعات البشرية وتماسكها, لكنهم جميعاً اشتركوا في رؤية انحساره, إذ توقعوا انحساره مع عملية التحديث والتصنيع وعقلنة العلاقات الإنسانية, ولا أعتقد أنهم كانوا يتوقعون نشوء مجتمعات حديثة ومتدينة في الوقت ذاته ولم يتوقعوا عودة الدين إلى السياسة بهذه القوة” ص289.
في الفصل الرابع (تعريفات)، يتناول الباحث المحاولات المختلفة لفهم الدين، وتحديدات الدين والتديّن نظريًّا، ليصل إلى اعتبار جهد تعريف الدين وتحديده جهداً علمانيّاً حتّى لو قام به باحثون غير علمانيّين، وإلى النتيجة التي تقول “إنّ فهمنا للدين يتغيّر بحسب العلمنة وأنّ أنماط التديّن في مجتمعٍ من المجتمعات تتأثّر بأنماط العلمنة التي تمرّ بها.
الفصل الخامس وعنوانه “انتقال من مبحث الدين والتديّن إلى مبحث العلمانيّة” هو الجسر الواصل ما بين الجزء الأوّل والجزء الثاني من مشروع الدكتور عزمي بشارة. وعنوان الجزء الثاني من الكتاب هو “العلمانيّة ونظريّة العلمنة”. وبهذا يكون الفصل الخامس من الكتاب نتيجةً وبدايةً في الوقت نفسه، ومضمونه: قناعة أنّ الدين ظاهرة اجتماعيّة متغيّرة وقابلة للدرس، وأنّه “إنسانيّ وإرادوي واجتماعيّ ونسبيّ ومتنوّع”؛ والعلمانية ليست نظريّة علميّة، ولا تعني العقلانية بالضرورة، بل هي ثقافة وأيديولوجية تطوّرت تاريخيّاً، وتمخّض عنها نظريّة سوسيولوجية في فهم تطوّر المجتمعات كصيرورة من العلمنة”.
“فنحن نتعامل مع العلمانية في هذا الكتاب لا باعتبارها وصفة أو معادلة للتطبيق المباشر من المنتج إلى المستهلك, بل هي نتاج عملية تمايز اجتماعي بنيوي وتغير في أنماط الوعي كصيرورة تاريخية, وهي صيرورة تمر بها المجتمعات كافة ونحن نعتقد أن طبيعة صيرورة العلمنة التي بها المجتمعات هي التي تحدد -ليس طبيعة العلمانية التي تنتج فيها, وموقعها ومدى هيمنتها كإيديولوجية فحسب- بل طبيعة أنماط التدين أيضاً” ص407 .
ينهي بشارة كتابه بما بدأه سابقاً عن هدف كتابه حين أكد أنه ليس ضرورياً أن يتفق أي قارئ مع تحليلنا للدين ظاهرة ومصطلحاً, لكن “هذا الكتاب يكون قد أدى مهمته إذا توصل القارئ النقدي سواء كان متديناً أو غير متدين, إلى قناعة مفادها: أن الدين ليس مجرد مجموعة من الأباطيل والنظريات الخاطئة في فهم العالم, وأن العلمانية ليست عبارة عن نظرية علمية… وأن الدين ظاهرة اجتماعية متغيرة وقابلة للدرس, والمعارف التي يقوم عليها متغيرة كذلك” ص15.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج