افتتحَ الفنّان التشكيلي السوري عبد الرزّاق شبلّوط يوم الجمعة 14-8-2015 معرضه الشخصيّ الأوّل –المستمرّ إلى الآن- في قلعة مدينة (ديورن) الألمانيّة -المدينة التي دمّرت الحرب أكثر من 90% منها- بدعوة من مؤسّسة هاينرش بول الألمانيّة التي استضافته في بيت الأديب الألماني “هاينرش بول” في منحة تفرّغ للرسم، أنجز فيها الكثير لمعرضه هذا، المعرض الذي حضره عمدة المدينة وكثير من السوريّين القادمين حديثًا إلى ألمانيا، وفنّانون ومهتمّون ألمان وعرب، ويعرض عبد الرزاق شبلّوط لوحاته الواقعيّة فقط وعددها 15 لوحة تنوّعت موضوعاتها واجتمعت في سوريّتها، اللوحات المفرطة بواقعيّتها صوّر فيها شبلّوط تفاصيل سوريّة كثيرة، ووجوهًا سوريّةً، وكانت الحريّة حاضرةً كذلك كأساسٍ أصيل في ثقافتنا السوريّة الجديدة، على هامش المعرض التقتْه “طلعنا عالحريّة” وحاورتْه عن هذا المعرض.
كيف يعرّف عبد الرزاق شبلّوط بنفسه؟
بدايةً؛ أشكر مجلّة طلعنا عالحرية التي أتاحت لي هذه الفرصة للتواصل مع أهلي في الداخل السوري والمخيمات المؤقتة وأحييهم من كل قلبي. باختصار شديد: أنا رسّام سوريّ، ابن مدينة حمص وريفها، درست لمدّة ست سنوات تقريبًا في مركز “صبحي شعيب” للفنون التشكيلية في مدينة حمص، خرّيج كلية الفنون الجميلة من جامعة دمشق.
يسأل كثيرون باستغراب: فنّان بهذه القدرة الساحرة، لماذا يكون هذا أوّل معرض شخصيّ له؟
ظروف الحياة التي كنّا نعيشها في سوريا بشكل عام، وفرض الخدمة الإلزاميّة في القوّات المسلّحة اضطرني لمغادرة سوريا إلى دولة الإمارات بعد التخرّج مباشرة، وهناك قضيت تسعة أعوام لأستطيع تأمين (البدل النقدي) للخدمة الإلزامية ممّا جعلني أعمل في مجالات بعيدة نوعًا ما عن اللوحة. عدت إلى سوريا في العام 2006 إلى مجال العمل الإعلاني والدوام الطويل ممّا اضطرني أيضًا للابتعاد كثيرًا عن التفرغ للوحة، ومنذ قيام الثورة السورية تركت العمل الوظيفي واكتسبت القوّة في دفع ثورتي الداخلية الخاصّة للتفرّغ للرسم، والرسم فقط، الثورة ألهبت مشاعر الملايين ودفعتهم لفعل كلّ ما في وسعهم بما يملكون أو يعرفون، وأنا كشخص يملك موهبة الرسم رأيت أن واجبي الفطري والأخلاقي هو التفرّغ لعملي الذي أتقن دعمًا ومشاركةً بهذه الثورة وحقًا لوطني عليّ، وقلت في نفسي إنّ نجاحي على الصعيد الشخصي هو نجاح لبلدي ولأهلي ولثورتي، وتفرّغت لهذا المشروع بمساعدة لا يمكن إنكارها، أو لنقل: لها كل الفضل وهي زوجتي وشريكتي في الحياة، وها أنا أقيم معرضي الأول من خلال كتفها الذي أسند رأسي عليه دائمًا.
ترسم عدّة اتجاهات فنيّة وبعدّة تقنيّات ومواد، لماذا تظنّ أنّك حصدتَ شعبيّة عالية خاصة على مواقع التواصل بلوحاتك الواقعية تحديدًا؟
في الحقيقة؛ هناك تقصير كبير في ثقافتنا البصريّة على المستوى الجماهيري، وقد اعتاد الناس على تقبّل الفنّ الواقعيّ أكثر من غيره من المدارس لقربه من إدراكهم الأوّل ومفهومهم البسيط عن التشكيل، وهذا ليس ذمًّا ولا انتقاصًا لهم، إنّه فقط توصيف لتقصير مؤسّسات المجتمع التعليميّة بهذا الخصوص، ولهذا نجد أنّ معظم الشرائح الاجتماعيّة وبكافّة مستويات تعليمها تتفاعل مع اللوحة الواقعيّة أكثر من تفاعلها مع اللوحات الأخرى، بينما النخبة فقط والمهتمّون هم من يستطيعون قراءة اللوحة بشكل أعمق.
الواقعيّة التي هي عنوان معرضك وسمته العامّة، تدرسونها في الجامعة بالتأكيد، ولكن الواقعيّة المفرطة، كيف جنحت لها وما هي قصّتها؟
منذ أيّامي الأولى في كلية الفنون كانت تستهويني الواقعيّة، ويدهشني الفنانون المفرطون في هذه الواقعية، ولكنّ المزاج الدراسيّ العام آنذاك لم يكن يسمح لهذه الرغبة بالتجسّد، كنّا شبابًا نريد أن نقدّم الجيّد والجديد، وكنّا نقلّل من شأن الرسم الواقعي ونعتبره مجرّد تقليد مجّاني للواقع، ولكنّني في الحقيقة كنت أهرب بين الفينة والأخرى للوحة واقعيّة أو اثنتين، ولكنّ هذه الثورة أثّرت بي كما أثّرت في كثير من الناس في ثورتهم على ذاتهم، وهنا قرّرت أن أتجاهل ما كان يمنعني من اتّباع شغفي بالرسم بهذا الأسلوب سواء كان النقّاد، أو التوجّه العام للمثقّفين أو النخبة، فليكن؛ وبدأت خوض التجربة ويبقى نجاحها رهنًا بالمتلقّي ونقّاد وأساتذة الفنّ بكلّ تأكيد، ولكنّني لم أعد متردّدًا بهذا القرار.
ألا تظن أنّ هذا النوع من الاتّجاهات الفنيّة يقلّل من السقف الثقافي للمتلقّي أو على الأقل لا يحفّز لديه الرغبة في فهم رمزيّة اللوحة؟
لا أبدًا، فهذه المدرسة كغيرها من المدارس الفنيّة لها أسسها وتقاليدها وروّادها منذ ستينيّات هذا القرن وهنا أتكلّم عن الواقعية المفرطة أو (ما بعد الواقعيّة) فإن كانت هذه الأعمال تقدّم بسياقها الثقافي والبصري والفكري بشكل جيّد فما المانع؟ المشكلة في نشر الثقافة الفنيّة ودور المؤسّسة وليس في الفنان نفسه ولا في المتلقّي، ولا أدري من هو الذي قال بضرورة الرمز في اللوحة! الرمزيّة والتعبيريّة والتجريديّة موجودة أيضًا ولها روّادها، ولكنّها ليست بأيّ حال من الأحوال أهمّ أو أعمق أو أكثر فنيّة من الواقعيّة، الأمر مزاج شخصي.
ماذا كان ينقصك ليكون هذا المعرض في سوريا؟
الكثير. واسمح لي بألّا أسترسل بهذا الجواب.
أنت الان في ألمانيا، في معقل الواقعيّة منذ أن بدأت بذارها في القرن التاسع عشر، هل تشعر أن هذا المكان أفضل لك؟ أم أنّ أعمالك ستتم مقارنتها بأعمال الواقعيّين الألمان؟
لن ندخل الآن في بحث تاريخيّ عن بداية الواقعية والتي أعتقد أن سكّان الكهوف كانوا أوّل من بدأها، ولكن أعتقد كأيّ عربيّ (موضوعيّ) أنّ أعمال الواقعيّين الأوروبيّين أهمّ بشكل مؤكّد من أعمالي نتيجة خبراتهم الطويلة ونتيجة تطوّرهم الطبيعي والظرفي في الفنون بشكل عام، ولكن أعتقد أنّني استطعت بفترة زمنيّة قياسيّة الوصول لمرحلة متقاربة جدًا مع أعمالهم واستطعت العرض بنجاح في صالاتهم كخطوة أولى أتمنّى أن تتبعها خطوات أخرى وتصيب بعضًا من النجاح.
هل وجدت اختلافًا بين الجمهور العربي والألماني من حيث قراءة اللوحة وتحليلها بحكم عملك كفنّان ومدرّس للرسم في الجامعة على الأقل إن لم تكن صاحب معارض سابقة ؟
في الحقيقة مازالت خبرتي قليلة بالجمهور الألماني، ولكن ما نعرفه جميعًا أنّ الفرق شاسع وكبير جدًّا بين جمهور يدرَّس الفنون الجميلة على أصولها في مراحل دراسته المبكرة، وجمهور كانت ومازالت حصّة الرسم لديه في المدارس حصة فراغ، وأعود وأكرّر المشكلة في المؤسّسات التعليميّة العربيّة لدينا وليست في الجمهور أبدًا.
حضور المعرض اليوم متنوّع وغنيّ، مثقّفون عرب وألمان، وجالية سوريّة واصلة حديثًا، سوريّون قطعوا البحر وربما أوّل شيء فعلوه في ألمانيا هو زيارة معرضك، هل تظن أنّ المسؤولية أصبحت مضاعفة الآن؟ أي هل يمكننا الحديث عن مرحلة ما قبل المعرض وما بعد المعرض؟
لا أستطيع وصف التوتّر وحجم المسؤوليّة التي تصيبني هذه الأيّام يا صديقي، وسعادتي بأن يرى الحضور هذه الأعمال للمرّة الأولى بشكل مباشر كبيرة جداً ولكنّني لا أخفي ترقّبي لردّات الفعل، سعادتي كبيرة فعلًا بالأصدقاء الواصلين للتوّ إلى ألمانيا والذين سيقطعون ساعات الطريق الطويلة إلى ديورن ليشاهدوا أعمالي، هذه المحبّة وبغضّ النظر تمامًا عن قيمة اللوحات الفنيّة تغمرني وتشعرني بالامتنان وتضع مسؤوليّة كبيرة على عاتقي أتمنّى من كلّ قلبي أن أكون أهلاً لها.
نعلم أنك شاركت في بيانات عديدة وفعاليات تضامنية وقدّمت لوحات لحملات تضامنيّة آخرها حملة “السوريون ليسوا أرقامًا” التي تضع صورتها على صفحتك الشخصية في فيسبوك، ما هي مشاريعك في المرحلة القادمة؟ هل ستزور مخيمات اللجوء التي يقيم فيها السوريون؟ هل ستقوم بنشاطات معينة من أجل السوريين؟
لن أكذب عليك، ولن أدّعي بطولات لا أملكها ونشاطات أتشرّف بها، فقد حصلت منذ أيّام فقط على أوراق لجوئي، وأقول لجوئي آسفًا، ولكن هذه هي الحقيقة، وقد كنت طوال الثمانية أشهر هذه أعمل ليلًا نهارًا على إنجاز اللوحات والوصول بها إلى نجاحٍ يليق بي كإنسان وبجنسيّتي وأهلي، لا أفكّر الآن بأيّ شيء، رغم استعدادي الدائم لتقديم كلّ ما أستطيع من أجل أهلي في الداخل وفي المخيّمات بدون أي مزاودة من جهة ما أو مسمىً ما.
برأيك لماذا كان الفنّانون الذين تضامنوا مع شعبهم أو قدّموا له قلّة؟ حتّى من هم خارج سوريا!؟
في الحقيقة لا أدري.. أخاف أن أظلمهم إن تكلّمت عنهم، سأدع ما أظنّه بهم لنفسي، كل امرء له قناعاته وقدراته وشجاعته وظرفه الخاص.
المواطن السوري عبد الرزاق شبلّوط وشقيق الشهداء وابن المعتقل، كيف يرى سوريا بعد هذه المرحلة الحرجة، وما هي سوريا التي يحلم بها؟
أحاول تجنّب الحديث دائمًا عمّا أصاب عائلتي وما قدمته هذه العائلة خلال الثورة، والتي تتشابه في ذلك مع العديد من العائلات السورية، ولكن أيّ نجاح أحقّقه أو سأحقّقه هو إهداء لأرواح أخويّ نديم وسمير وإهداء لأخي حمزة المصاب في البيت، ولأبي الذي لا اعلم في أيّ قبو مظلم هو، ولا إن كان مايزال على قيد الحياة، أشعر أنّهم يستحقّون أن يعلم العالم كلّه بهم وبما قدّموه وأعتقد أنّ هذه هي مهمّتي في ردّ جزء بسيط لهم ولتضحياتهم الكبيرة، كنت أتمنّى أن يرى أبي هذا المعرض، أبي الذي كان يفتخر بأيّ خطّ أرسمه وأنا صغير، دعنا من هذا الشجن صديقي ولنكمل: أرى أنّ مايجري في سوريا صيرورة تاريخيّة حقيقيّة والكلام أصبح كثيرًا جدًا، والمواقف تشعبّت، والأزمات تزايدت داخل الثورة ولكنّها ثورة حقيقيّة، ومستمرّة رغم كلّ السلبيّات التي تشوبها ورغم كلّ التخوّفات المحقّة، وسوريا التي أحلم بها ككثيرين غيري: هي سوريا الدولة المدنيّة الديموقراطيّة التعدديّة لا أدري متى ستأتي بعد أن تدخّلت شياطين الأرض كلّها، لكنها وبدون أدنى شك ستأتي.
- لوحات للفنان وصور من المعرض
شاعر وكاتب صحافي من سوريا – فلسطين.
رئيس تحرير صحيفة “أبواب” ومحرر القسم الثقافي سابقاً في مجلة “طلعنا عالحرية”. صدر له في الشعر “سيرًا على الأحلام” 2014 عن دار الأيام – الأردن، وله كتابان قيد الطبع في الشعر “لم ينتبه أحد لموتك” و”لابس تياب السفر” في الشعر المحكي. يكتب في العديد من الصحف والمواقع العربية والألمانية. ترجمت نصوصه وقصائده إلى لغات عديدة كالإنكليزية والألمانية والبوسنية. يعيش في ألمانيا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بعد استضافته من قبل مؤسسة الأديب الألماني “هاينرش بول” في منحة تفرّغ إبداعي للكتابة.