مجلة طلعنا عالحرية

عام آخر ولم “أتعلم التنس”

لا أتذكر الكثير عن نفسي؛ عن “أنا” التي كنتها قبل سنوات، إلا أنني أذكر كيف كنت أتفاءل  بموسم الأعياد بينما تبدأ الشوارع والبيوت تتزين لقدوم الميلاد والسنة الجديدة، أحب الفرح والهدايا والأغنيات المرتبطة بهذه الفترة من كل عام، إلا أننا تعودنا كسوريات وسوريين في السنوات الماضية أن يستحيل مرور مناسبة دون أن ترتبط في أذهاننا بفقد معين: 

قُصيَ

تعرفت على قصي نهايات عام 2012. كان طالباً في كلية الهندسة المدنية في دمشق وأحد الناشطين الذين التقيتهم في ساروجة، ثم بدأت التنسيق معهم في ذلك الوقت، ابن مدينة الزبداني وأحد أفراد مجموعة رائعة نشطت في ركن الدين.

جمعتنا الثورة، وسهرات واجتماعات وأغان ٍ كثيرة في بيت صغير في جرمانا، كان يتحول غالباً إلى خلية عمل وتنسيق ومشاريع وأحلام..

لم يكن هناك الكثير من العمل المشترك بيني وبين قصي، لكنني كنت أعمل على مشاريع مع الأطفال في ذاك الوقت، وكان قصي يحاول تأمين التبرعات للأطفال الأيتام، فبدأت محادثاتنا تزداد تواتراً.. 

كان يحبّ التنس، ويمارسه كرياضة. 

يشجع الصربي “دجوكوفيتش”، أما أنا فأكون دوماً مع أشقائنا الإسبان!.. دائماً مع “نادال”. 

وضعنا العديد من المراهنات وشاكسنا بعضنا كثيراً مع كل مواجهة بين اللاعبين، وكنت أخبره أنه يشبه “دجوكو” بنسخته السمراء.

واعتدنا أيضاً “الشلي” عن صديقنا المشترك “عمر” الذي ينسى الموبايل ولا يرد على مكالماتنا أو رسائلنا مهما كان الوضع مستعجلاً أو خطيراً.

كان بمثابة أخي الصغير الذي أحكي له عن خلافاتي مع حبيبي وعن مخططاتي القادمة، رغم أننا لم نكن نتكلم كثيراً في تفاصيل حياتنا الشخصية، فقد كانت الثورة يومها محور كلّ حديث وأصل كل اهتمام. كان يحكي لي عن مظاهرات ركن الدين، عن أفكار الفعاليات القادمة، وأخبره أني لم أكن أحب حلب قبل الثورة لكنني سعيدة بالثورة ومظاهرات بستان القصر. كنا نعيد اكتشاف انتمائنا لهذا البلد بتناقضاته وبساطتنا، بقسوته وهشاشتنا، نحاول أن نؤمن أن أحلامنا الملونة أقوى من قتامة الواقع وصعوبة الأمل.

آخر ما أذكره من محادثاتنا رهانٌ وضعناه للمباراة القادمة بأن من يخسر سيضع صورة اللاعب الخصم كصورة شخصية على حسابه في فيسبوك.. أخذته “العفاريت الزرق”.. آخر أيام السنة 30/12/2013.. تلك كانت سنة الاختطاف والاعتقال بامتياز. 

أصابني الرعب حين وصلني الخبر؛ اعتقل قصي! وبيننا عشرات المحادثات المتعلقة بالعمل، ومثل أغلب النشطاء خلال تلك المرحلة نبدأ بتوقع امتداد سلسلة الاعتقال، لتشمل كل من كان على صلة. حذفت كل محادثاتي معه؛ كل الأحلام والنقاشات والضحكات.. كان الخوف أقوى!

لم يعد بإمكاني الفرح خلال رأس السنة، ولم تعد لدي أمنيات كثيرة للعام الجديد، أريد فقط أن يعود قصي ورفاقنا سالمين.

كما لم يعد بإمكاني ألّا أشجع “دجوكوفيتش”، صرت أفكر أن قصي ربما سيفرح لو علم هناك في القبو البارد أن “نادال” قد هُزِم، أتخيله يضحك ساخراً مني.. صرت أكتب له على صفحتي الشخصية أخبار بطولات التنس لأذكر نفسي به.

بعدها بفترة قصيرة غادرت سوريا مرغمة في بداية 2014. كنت في العمل في تركيا حين وضعت صورة له على صفحتي في فيسبوك أطلب معها أن يعود إلينا سريعاً، لتأتيني رسالة خاصة تسألني إن كنت سمعت آخر الأخبار، أجبت بالنفي . أخبرني “علي” أن قصي “الله يرحمه” استشهد تحت التعذيب!

عقلي يمتلك آلية دفاعيّة ضدّ الألم تجعلني أرفض التصديق.

سألته إن كان متأكداً، فأجابني أن العائلة لم تستلم بعد شهادة وفاة.

أنكرت طبعاً وأقنعت نفسي أنه أسلوب النظام في تخويفنا وقمعنا، وأنه يريد بثّ الرعب في نفوسنا بنشر أخبار أن أصدقاءنا يقتلون في العتمة.

لابد أن يكون ذلك أحد أساليبهم الشيطانية، قصي شاب قوي البنية ورياضي.. سيحتمل.. لا يمكن أن يستسلم ويغيب.

تواصلت أخبار استشهاد بقية الشباب في فرع المخابرات 215 تباعاً، وكأن المجموعة كلها قررت أن تذهب سوياً كما عملوا وخططوا وتظاهروا سوياً!

لم تعد تفرحني أضواء وأشجار وأغاني نهايات العام كما كنت سابقاً.. هناك شيء يصرخ داخلي دائماً أن العفاريت لا تزال تخطف الملائكة هناك في شوارع بلدنا القاسي.

وعدني قصي أن يعلمني التنس حين نلتقي في المرات القادمة، ولم ينفذ وعده بعد.

وأنا ما زلت أعيش دوامة من الارتباك مع كل مواجهة بين “نادال” و”دجوكو”.. من أشجع منهما؟! ودائماً يفوز صوت “قصي” في رأسي: “عليكِ أن تكوني مع لاعبي المفضل ريثما أعود”!

Exit mobile version