Site icon مجلة طلعنا عالحرية

ظاهرة الإسلاموفوبيا البَيْنِيَّة أو الخوف الإسلامي من الإسلام!

يوسف المنجد

شاع مصطلح الإسلاموفوبيا في الغرب في ثمانينات القرن المنصرم كتعبير عن حالة خوف الغربيين من الإسلام وكعنوان للنشاطات التي تستهدف تخويفهم منه، وبث كراهيته في نفوسهم. وقد شاع استخدامه بكثرة في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.
لكن نشأة الإسلاموفوبيا كمصطلح وانتشاره في الغرب لا يعني أنه لم يكن له وجود داخل البلدان الإسلامية، بل لقد وُجِد فيها الكثير منه، غير أن الأمر كان محصورا ضمن نطاق ضيق يقتصر على بعض المثقفين والسياسيين، وخصوصا بعد حوادث الاغتيال التي طالت البعض منهم .
لكن التطور الجديد في ظاهرة الإسلاموفوبيا ،تمثل في شيوعها في أوساط المسلمين أنفسهم. فبالرغم من أن غالبية كبيرة منهم يمارسون شعائر دينهم، ويلتزمون تعاليمه، إلا أن ذلك لم يمنع تفشي الإسلاموفوبيا في صفوفهم. وبعد أن كانت نسبة كبيرة منهم يتوقون إلى نظام حكم إسلامي، يأتي بالحلول لمشكلاتهم، انعكس الأمر، وباتت فكرة نظام الحكم الإسلامي تتسبب لهم بخوف يصل عند بعضهم حدَّ الرعب .
حدث هذا التحول، بعد أن عاين الناس نموذجا دمويا مشوَّها عن الدولة الإسلامية تمثل في (داعش ) وغيرها من التنظيمات التي أرادت بناء نظام حكم إسلامي، فبدأت من السقف قبل القواعد، فكان الخوف بدل الأمن، والظلم بدل العدل، والكراهية بدل المحبة، والعبودية بدل الحرية، كنتيجة طبيعية لمخالفة السنن الاجتماعية.
لم يعد الخوف من الإسلام إذن يقتصر على الغرب، أو على فئات محدودة في بلاد المسلمين، فقد شاع الخوف وسرى، وغدا هاجسا لدى الكثيرين، وظهرت لهذا المرض علامات وأعراض لم تكن تخطر في بال، فالانبهار بالغرب والنظر إليه باعتباره النموذج الحضاري الأمثل بات أقوى اليوم بأضعاف، وتسرب إلى فئات لم تكن ترى في الغرب إلا الاستعمار والاستغلال والتآمر والانحلال الخلقي والاجتماعي. وموجات اللجوء إلى دوله لا يمكن تفسيرها فقط بدافع النجاة من الحرب، أو الطمع بحياة رغدة مرفهة، بل إنها تحمل في تضاعيفها خوفا ونفورا من النموذج الإسلامي، واستعدادا لتقمص النموذج الحضاري الغربي بكل أبعاده.
والنفور من مظاهر الدين وشعائره، والشعور بالنقص والخجل من الانتماء إليه لدرجة وصلت بالبعض إلى الإلحاد، هو إلى تزايد مستمر بعد أن كان العكس هو الصحيح، إضافة إلى الكثير من المظاهر الأخرى التي تشي بتفاقم هذه الظاهرة.
ولا شك أن الصورة المرعبة للإسلام التي أرستها داعش وأخواتها، والتي أظهرته كجلاد قاس يطارد الناس ليسلبهم حرياتهم، ويجبرهم على إتيان الفرائض والشعائر الدينية على الرغم منهم، كان لها الدور الأكبر في شيوع ظاهرة الإسلاموفوبيا البينيَّة كما قدمنا، غير أن ذلك وإن كان السبب المباشر والأبرز، إلا أنه لم يكن السبب الأوحد، بل إن هذا السبب ربما ليس سوى نتيجة لأسباب أخرى غير مباشرة سبقت وجوده وشكلت الأساس له. ولعل منها :
– عرض التدين الموروث من عهود الأمويين والعباسيين والعثمانيين على أنه الإسلام الصحيح ولا إسلام غيره دون ملاحظة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان لها أثر كبير في تكوينه الذي تمظهر به، ودون الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المتغيرة للمجتمعات، والطبيعة المرنة للإسلام التي تجعله قابلا للتعايش مع مختلف الظروف، ومناسباً لمختلف البيئات. فهذا الإصرار على تلك الصورة النمطية المتوارثة، جعل الناس لا يتصورن إمكانية وجود إسلام مختلف، فهو إما أن يكون بالصورة التي كان عليها في الماضي وإما فلا إسلام.

– وهذا الأمر هو نتيجة منطقية لتغييب دور العقل وتحريم التفكير النقدي في الموروث الثقافي (التدين) الذي اكتسب القداسة بالتقادم فصار هو الدين، وصارت أقوال مفكري التراث الذين كانوا – كما أشرنا – صنيعة الظروف التاريخية والسياسية التي وُجِدوا فيها، صارت نصوصا تُبنى عليها الأحكام الشرعية، وصار فهمهم لنصوص الدين هو المسطرة التي لا يصح الإتيان بمخالفتها، فَحَبَست أقوالهم واجتهاداتهم النصوص الأصلية في ظروف تاريخية بعينها، وحجبت مكنوناتها، وأطَّرت كذلك العقل المسلم في صندوقها فلم يعد يرى الإسلام ويفهمه إلا من خلالها. ولذلك يدفعه إيمانه إلى العمل على إعادة إحيائها بشتى السبل، مع أنها في الأصل اجتهادات بشرية محكومة بما يطرأ على البشر من نقص وخطأ وتأثُّرٍ بالظروف المحيطة وتواطؤ وغير ذلك، مما يعني أن فيها الكثير من الانحرافات عن جوهر الدين،واغتراب عن مقاصده وغاياته.وفي الجهة المقابلة جعلت هذا الصورة المتحجرة للدين بعضا من أولئك الذين هيأت لهم ظروفهم الانعتاق من سطوة التقليد، ومن ثم التفكير نقديا، ولكن بعيون ثقافية مغايرة؛ جعلتهم ينفرون من الدين نفسه ويخافونه ويخوفون منه، ويرمونه بكل نقيصة، ويتهمونه بالوقوف خلف كل عبث وتخريب، وجهل وتخلف، دون أن يتمكن هذا البعض من الفرز بين التدين الذي تصح أوصافهم للدين على الكثير منه، وبين الدين نفسه، البريء من كل ذلك.
– ولا ننسى أخيرا أثر الإعلام بمختلف أنواعه، حين يعمل بلا ضمير ولا مسؤولية، فعن طريقه عرض المتطرفون أفلامهم المرعبة، وتهديداتهم المفزعة. وعن طريقه بث شيوخ الفتنة ردحهم الطائفي، وثقافة الكراهية لكل ما هو مختلف، وبواسطته قام دعاة يعيشون بيولوجيَّا في عصرنا، وعقليا ومعرفيا في عصور سحيقة، بترسيخ صورة متحجرة للإسلام تضعه في مواجهة عدائية مع الحياة برمتها. وعن طريقه أيضا بثَّ المعادون للإسلام سموم كراهيتهم له، وعملوا على إلصاق كل ما هو قبيح به، وعلى السخرية من رموزه ومقدساته، ونسبوا له كل شرور العالم وآثامه، وصوروه من دونه فردوساً دانياً .
إن ظاهرة الإسلاموفوبيا بينيَّا، ظاهرة خطيرة، تفوق في خطورتها الإسلاموفوبيا غيريَّا، لأنها تهدد ثقافة الأمة وهويتها في الجذور، وما لم يتم التصدي لها بحركة ثقافية توعوية تجديدية نقدية، تفوقها قوة وسرعة واتساعا، فإنها ستلتهم هوية الأمة وشخصيتها، وستفاقم من تدهورنا ومن تبعيتنا على مختلف الأصعدة، ولا نلومنَّ إلا أنفسنا .

Exit mobile version