قصي الأحمد
انطلقت الثورة السورية مطلع العام 2011، وسرعان ما امتدت من منطقة لأخرى، حتى عمت نقاط التظاهر معظم المحافظات على امتداد سوريا.
لم يكن هناك بداية اتصال جغرافي واضح بين نقاط التظاهر، لكن بكل تأكيد كان هنالك اتصال معنوي أشد وثاقاً من الاتصال على المستوى الجغرافي، ولذلك أسباب كثيرة، منها وحدة الهدف واستقلال الرأي، وأعتقد أن أهمها على الإطلاق هو “الشعور الضمني بوحدة المصير” أي أن مصير متظاهري دير الزور مرتبط بمصير متظاهري درعا على الرغم من البعد الجغرافي، ومصير متظاهري الغوطة مرتبط بمصير متظاهري حمص، وهكذا..
كان هناك شبه إجماع على أسماء الجُمع التي تخرج فيها المظاهرات، ولا يقتصر الأمر على الاسم فقط، بل يتعداه إلى المضمون من شعارات وهتافات ولافتات وغيرها..
تعامل نظام الأسد بسادية مع المتظاهرين، وتحول الصراع إلى منحى جديد وهو منحى الصراع المسلح، ولم يكن لدى نظام الأسد حينها الكثير من الأوراق للعبها، فعمل على سياسة كسب الوقت وإطالة مدة الصراع قدر الإمكان في مواجهاته مع الثائرين.
وكان لذلك الكثير من العواقب والتأثيرات التي لا يتسع المجال لذكرها هنا، لكن ما يهمني منها الآن هو “ضعف الشعور الضمني بوحدة المصير” الذي كان سائداً في بداية الحراك الثوري السلمي وبداية الحراك المسلح، وصولاً لانتهائه، ولا أكون مبالغاً إذا قلت وصولاً لانتهائه، فما حدث ويحدث لاحقاً يدل على ذلك بكل وضوح.
مع بداية العمل الثوري المسلح كان لا يزال ذلك الشعور سائداً في أوجه، فلا غرابة أن ترى ثوار الغوطة يقاتلون في جنوب دمشق ودرعا مع ثوار تلك المناطق وبالعكس، وترى عبد القادر صالح (المارعي الأصل) يقاتل في مدينة القصير جنباً إلى جنب مع ثوارها.. والأمثلة على ذلك كثيرة.
وأعتقد أن سبب ذلك عائد إلى انبثاق تلك الكتائب البسيطة في تلك الفترة عن المتظاهرين السلميين، وكانت تجسيداً واستمراراً لكفاحهم، وحامية لهم في نضالهم ضد نظام الأسد، وهدفها الأساسي هو العمل على إسقاط النظام وتحقيق العدالة والحرية التي صدحت بها حناجر المتظاهرين مع بداية انطلاق المظاهرات، ونتيجة لذلك فقد حظيت بحاضنة شعبية كبيرة.
وبالتوازي مع ذلك كله برزت نخبة سياسية سورية في الخارج جعلت من أولويات أعمالها العمل على تحقيق مطالب المتظاهرين أيضاً، ولذلك حظيت هي الأخرى بحاضنة شعبية وقبول جماهيري واسع، وشعار “المجلس الوطني يمثلني” الذي رفعه المتظاهرون بداية يدل على ذلك.
لكن وبعد مدة من الزمن، تحولت تلك الكتائب إلى فيالق وجيوش وألوية، وتبدلت الكثير من الوجوه في قياداتها من التي خرجت من رحم المظاهرات، وأضافت لمهمتها الأساسية مهاماً أخرى، وأصبحت بشكل أو بآخر وصية على المتظاهرين بدل أن تكون حامية لهم، وبدأ يظهر مصطلح “مدني وعسكري” للتفريق بين العملين اللذين كانا شيئاً واحداً من قبل، وأدخلت تلك الفصائل نفسها في إدارة المناطق التي سيطرت عليها، بدل أن تكتفي بحماية من يديرونها من الكفاءات، فوقعت بالكثير من الطامات، وأُدخلت لها الأيديولوجيا، فأصبحت تدخل في تفسيرات وتفاصيل للحرية والعدالة المنشودة، وبشكل الدولة بعد إسقاط النظام، واختلفت الرؤى، وتباينت وجهات النظر، ووصلت الاختلافات حدّ الصدام المسلّح بين العديد منها، واعتقدَ بعضها أنه الممثل الأوحد للثورة، وأنه يملك الحق بمفرده، وباستطاعته العمل “منفرداً” لإسقاط النظام لمجرد امتلاكه بضع مئات من العناصر ودبابتين.
هذا عدا عن دخول المال السياسي وتأثيره على استقلالية القرار العسكري للعديد منها.
سياسياً لم يكن الحال أفضل، فقد حدثت انقسامات ومحاصصات داخل الائتلاف الوطني المنبثق عن المجلس الوطني، ودخل فيه هو الآخر المال السياسي الذي حرفه عن مهمته الأساسية إلى حد ما.
على مدار سنوات الثورة السورية لم ينظر نظام الأسد وحلفاؤه للمعارضة والمناطق الخارجة عن سيطرته سوى بمنظار واحد “هم أعداء ويجب التخلص منهم واستعادة السيطرة على مناطقهم”، لكنهم تعاملوا مع كل فصيل ومنطقة بطريقة مختلفة عن الأخرى؛ فحيدوا مناطق بالهدن، وأخرى بوعود زائفة، وأخرى باتفاقيات خفض تصعيد، وبعضها بأعمال عسكرية.. وهكذا.. وأدى ذلك -بالإضافة لما ذكرته سابقاً- إلى زيادة تشتيت المعارضة بشكل أكبر وإشعارهم بالاستقلالية بعيداً عن المناطق الأخرى.. والغريب أن المعارضة كانت دائماً هي الأشد التزاماً بالاتفاقيات مع النظام وحلفائه، على الرغم من خروقات الطرف الآخر المستمرة، كيف لا وهي الطرف الأضعف بها؟!
ليس هذا كل شيء، فقد عمل النظام وحلفاؤه على تشتيت المعارضة في المنطقة الواحدة، كما حدث مع الفصائل المسلحة في الغوطة الشرقية التي لا تتعدى مساحتها بضعة كيلو مترات، حيث قامت باتفاقيتين مختلفتين مع الجانب الروسي، إحداها في جنيف مع ممثلي أحد الفصائل والأخرى في مصر مع ممثلي فصيل آخر، وهي اتفاقية خفض التصعيد التي لطالما اخترقها النظام والروس، لكن المفارقة أن الروس أنفسهم عندما قاموا بحملتهم على الغوطة الشرقية مطلع العام 2018م، قاموا بها على الجميع!
استراتيجية التفريق هذه -والتي تتحمل المعارضة الجزء الأكبر من المسؤولية فيها- مكنت النظام وحلفاؤه من الاستفراد بكل منطقة على حدى دون شعور “فعلي” من المناطق الأخرى بالخطر القادم عليها لا محالة.
“نحنا غير” هو التبرير الذي يسوقه بعض قيادات المعارضة لتبرير سكوتهم عن نصرة أو مساعدة المناطق الثائرة الأخرى التي تتعرض للتقتيل أو التهجير، وتخفيف حدة الشعور بالخطر القادم لدى الناس.. لطالما سمعت هذه الكلمة من بعض القادة في الغوطة الشرقية أثناء حملة النظام وحلفائه على حلب، عندما كانت لدينا مخاوف من أننا سنلقى نفس المصير، كان التبرير “نحنا غير”، لكن ما جرى على الأرض يدل بكل وضوح بأنه لا أحد “غير” فالجميع بنظر النظام وحلفائه سواء.
اليوم وعلى الرغم من وجود المعارضة في منطقة متصلة جغرافياً، إلا أننا لازلنا نرى ذلك الشعور سائداً “نحنا غير”. شاهدنا ذلك عندما بدأ النظام وحلفاؤه حملتهم على ريف حماة الشمالي، وصولاً لسراقب، وخان شيخون ومعرة النعمان وغيرها.. وأخيراً درعا التي بقيت تقاوم حتى آخر رمق، ثم رضخت بعد ذلك.. لم نر من معارضة باقي المناطق أفعالاً تنم عن إحساس حقيقي بالخطر القادم، هذا عدا عن الإحساس بالمسؤولية تجاه ثائرين آخرين من المفترض أن لهم نفس أهداف الثورة الأولى، ومناطق كانت شوكة في حلق نظام الأسد، وهاهي تعود إليه، ليتفرغ بعدها إلى مناطق أخرى.
على مدار الثورة السورية كان مصطلح “نحنا غير” سائداً -في الغالب- على مستوى القيادات، لكنه لم يكن كذلك على مستوى الحاضن الشعبي، الذي كان كثيراً ما ينتفض لما تتعرض له المناطق الأخرى من انتهاك، ولطالما طالب بنقض الاتفاقيات المجحفة والمكبلة للمعارضة عن مساندة المناطق الأخرى، لكن طول عمر الثورة وكمية الصدمات والخذلان التي تلقاها الناس، وإشغالهم بأزمات اقتصادية وأمنية واجتماعية.. أضعف عندهم “التعبير” عن إحساسهم بالخطر القادم، وإن كان ذلك الشعور لا يزال كامناً في أعماقهم، فهم المعني الأول والمتضرر الأكبر والأكثر تضحية في كل ماجرى، وما سيجري في قادم الأيام.
لا أدري لماذا ساد مصطلح “نحنا غير” أو لماذا بالأصل “نحنا غير” ونحن نرى أنفسنا نمشي في نفس الطريق الذي مشى فيه الآخرون، فلماذا لا نلاقي نفس مصيرهم؟!
ألا يشبه حالنا اليوم -بشكل أو بآخر- حال ممالك الطوائف بالأندلس في أيامها الأخيرة؟ وحال ممالك الشام إبان الحملة الصليبية لاحتلال القدس؟ وحال الكثير من المناطق السورية التي استعادها النظام خلال عشر سنوات من الثورة السورية؟
أليست هذه سنن وقوانين الكون التي لم تُخرق لهم؟ فلماذا تُخرق لنا نحن دوناً عن كل الناس؟!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج