تمر هذه الأيام الذكرى العاشرة على بدء الثورة السورية وإعلان السوريين لإرادتهم للخروج من السجن إلى الحرية.
والسؤال الأبرز الذي يمكن أن يطرح بعد عشر سنوات، هل كانت تلك الإرادة والثورة تستحق كل هذا الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب السوري؟
الحرية قيمة لا يمكن تثمينها ومقارنتها بأي قيمة أخرى، وهي تساوي قيمة الحياة نفسها.
حق الاختيار هو الأسمى؛ وربما لا قيمة للحياة نفسها بدون حرية الاختيار. هذه الحرية التي سلبها نظام الأسد المجرم من السوريين لنصف قرن، وهم قرروا بآذار 2011 استعادتها مهما كلف الأمر، وهو يستحق حتماً.
كل الشعب السوري يعاني الآن، ولكننا أكيد كلنا كنا نعاني أيضاً قبل الثورة، ولكن معاناتنا ذلك الوقت كانت صامتة عاجزة، والمعاناة الصامتة هي الموت القاتل.
نعاني جميعاً خارج سلطة النظام المجرم حتماً، في مخيمات اللجوء، وفي مخيمات النزوح، وفي دول اللجوء.. ولكننا قادرون على الكلام والصراخ وإيصال صوتنا للجميع، وإدانة المجرمين الذين يجعلوننا نعاني، ونشعر بحق وحرية الاختيار؛ نشعر بالحياة. بينما السوريون الذين مازالوا تحت سيطرة الإجرام والمجرمين يعانون أكيد، ولكنهم غير قادرين على الصراخ والكلام، يعانون بصمت قاتل يأكل ليس أرواحهم فقط بل أجسادهم أيضاً.
أكثر من نصف مليون ضحية، وأكثر من نصف السوريين بين نازح ومهجر ولاجئ، وتدمير كامل لأكثر من 15% من المنازل والبنية التحتية لسوريا، ومازال أكثر من 150 ألف معتقل مغيب ومخفي بالمعتقلات، جيل كامل يحتاج للتعلم، ولسقف يأويه ولعائلة تحتضنه.
ثمن هائل جداً للحرية والعيش بكرامة التي طالب بها الشعب السوري، ومتى كانت الحرية لها سعر أو رخيصة الثمن؟ ومتى كانت الكرامة تقدر بثمن؟ فهي إما تكون أولا تكون، ولا يوجد بين بين. كالحياة والموت، كالوجود والعدم. وقد اختار الشعب السوري العودة للوجود وتجديد تاريخه المشرف.
راقب العالم كله معجزة الشعب السوري بإطلاق ثورته التي لم يتوقعها أحد، حتى السوريون أنفسهم فوجئوا واكتشفوا أنفسهم بهذه الثورة العظيمة؛ هذه الثورة السلمية الديمقراطية التي تكالبت كل قوى العالم ودوله لتدميرها ووأدها: مرة بعسكرتها، وأخرى بأسلمتها، وثالثة بشيطنتها، ورابعة بتفريقها بالترغيب والترهيب لقياداتها ودسّ أشخاص موبوؤون ضمنهم، وأخيراً وليس آخراً: بمنع أي دعم عن نشاط المجموعات الديمقراطية السلمية.
كان الجميع يدرك أن انتقال سوريا لبلد ديمقراطي مدني سيزعزع كل المنطقة، ويهدم سلسلة مجرمين متكالبين على السلطة في كل دول الجوار البعيد والقريب، ويغير تاريخاً كاملاً من استخدام أنظمة خادمة لمصالح الآخرين. وهذا سيكون إيذاناً بتغيير كل العالم. فوقف الجميع ضدّ الثورة السورية السلمية الديمقراطية، وحاربها حتى بعض من ادعى نصرتها. قوى إقليمية وقوى عظمى؛ إيران، روسيا، تركيا، كل دول الخليج، أمريكا، حتى الصين، ولن ننسى حتماً العنصر المؤثر “إسرائيل”. أوروبا وقفت تتفرج وهي خائفة ومتوجسة من هذا التغير على مصالحها، وتتلقى آثار ما يحدث في سوريا بعجز ظاهر. ويداوون عجزهم بإغاثة إنسانية مشروطة، وبمسرح دمى اخترعوه في جنيف ليكون غطاء لعجزهم وخوفهم المطلق من نتائج انتصار الثورة الديمقراطية في سوريا.
هناك من يقول أو يفكر ويروج أن الثورة السورية قد انهزمت! ويجب أن نقبل بالعودة للسجن، أو نقبل بالفتات الذي يرمى لنا!
هم يسقطون هذه الثورة على أنفسهم المهزومة أساساً. من يكون خائفاً من دفع الثمن للحرية عليه أن يبقى مكانه ويرضى بموقعه ولا يتقدم الصفوف.
أستطيع القول بثقة إن هذه الثورة انتصرت أساساً منذ آذار 2011، وهذا الثمن الباهظ والمسير الطويل هو للوصول لنتائج هذا الانتصار الساحق الذي حدث، هذا الشعب وهذه الثورة أسطورة ببقائها صامدة حتى الآن.
انتصارها العظيم والكبير هو صمودها كل هذه السنوات العشر، رغم أن كل العالم بقواه العظمى العسكرية والسياسية والاقتصادية وأشرس نظام إجرامي عبر التاريخ حاربوها ولم تسقط .
مازال صوت هذا الشعب العظيم يصرخ مطالباً بالحرية والكرامة ورفض الاستبداد والقمع ،رغم كل المعاناة والثمن الفادح، ويثبت وجوده في كل سوريا وخارجها ومناطق النزوح ودول اللجوء.
لم ولن تستطيع كل قوى العالم العسكرية والسياسية أن تسكت هذا الشعب العظيم أو تعيده للخنوع والسجن مرة أخرى، وما زالت مطالب هذا الشعب كما هي: الحرية والكرامة، ولم يتزحزح عنها أبداً.
هذا الشعب الذي تاريخه سبعة آلاف سنة، علّم العالم أول أبجدياته، وكتب أول نوتة موسيقة، وعاصمته هي أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، والتي واجهت سبعة زلازل مدمرة وما زالت شامخة، لن يمحوه أو يدفنه خمسون عاماً من حكم مسوخ مجرمين. روما كانت أكبر من نيرون، وبطرسبورغ أكبر من ستالين. هذا الشعب وهذه “السوريا” ستعلم العالم كله درساً جديداً بالصمود والدفاع عن قيم الحرية والعدالة، ونحن ندفع ثمن ذلك عن شعوب العالم كله. أسطورة الثورة السورية غيرت وستغير العالم، وشعب هذا البلد بكل تنوعه الإثني والديني والطائفي الذي طلع للحرية، سيستمر للوصول لنهاية الطريق لبناء الدولة التي يستحقها كشعب حضاري في دولة تحترم حقوقه كاملة. وسيسقط نظام الاستبداد والإجرام، وسنضع المجرمين وراء القضبان ليكونوا أمثولة للجميع. سيعيد هذا الشعب وجه سوريا الأصلي، ويغير العالم ليتلاءم مع ذلك.
سيذكر التاريخ هذه الثورة وآثارها ونتائجها كنقطة تحول عالمية كبيرة، غيرت اتجاهه للأفضل، ويحق لنا الفخر بذلك رغم كل ألمنا ومعاناتنا وخسائرنا.
طلعنا عالحرية وتذوقناها، ولن يحرمنا أحد من هذا الطعم أبداً.
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، محرر قسم حقوق الإنسان والمجتمع المدني في مجلة طلعنا عالحرية