في مطلعِ الشهرِ الجاري كتبتْ أمُّ الشهيد – غياث مطر – على صفحتِها الشخصيّة: «هو الغائبُ الذي لا يعودُ, وأنا المشتاقُ الذي لا ينسى».
الأمُّ الفقيدةُ تبوحُ شوقَها في الذكرى السنويّة الثالثةِ لرحيلِ ابنها الشاب, الذي اعتقلَتْه قوى الأمنِ السوريّ في السادسِ من أيلول\ سبتمبر عام 2011, لتعيْدَهُ بعدَ أربعةِ أيامٍ جثةً هامدةً تحتَ التعذيب, وشهيداً من مدينةِ داريَّا في الغوطةِ الغربيِّة لدمشق, يعتبرهُ الكثيرونَ أيقونةً للحراكِ اللاعنفيِّ في سورية.
طوالَ السنواتِ الماضية لم تتأخر مدينةُ – غياث – كثيرا عن مكانها في أولى العناوينِ الإخبارية, لكنّها كانت في الأيام الأخيرة الحدثَ الأبرز, وبعد تعثّر محاولاتٍ عديدة, تمكّن وفد المدينة الاجتماعَ بممثلينَ عن النظام السوري, وتحديداً الفرقة الرابعة التابعة للحرس الجمهوري.
دارَ خلال الاجتماع مفاوضاتٍ قاربت مدّتها الخمس ساعاتٍ, طالب فيها القادمون من داريّا عودة انتشارِ جيش النظام على أطراف المدينة, والإفراجَ عن قائمة تحوي أسماء ثلاثمئةِ معتقلٍ من النساءِ والأطفال كبادرة تفيد التحققَ من جديّة الاتفاق.
الشهيد الذي كتبَ في الأيّام الأخيرة قبلَ رحيلهِ عن حلمهِ بأن تخرجَ مدينتَهُ لانتفاضةٍ سلميّةٍ دونَ أن تهاب الشبيحةَ والأمنَ والاعتقالات, لا يعرفُ اليوم بأنّ داريا تضع النظام السوريّ أمام شروطٍ صارمةٍ لا تَرَاجُعَ فيها وبأنّ البندَ الأوّل الذي يفيد بانتشارِ الجيشِ النظاميِّ على أطراف المدينة لم يُتفَق عليه بسبب رفض الوفد المفاوض من داريّا تسليم الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة للنظام السوري تحت هذا البند.
المجلس المحلي لمدينة داريا وهو أحد أهمّ المؤسّسات المساهمة في تفرّد تجربة المدينة يصفُ مكتبَ الحراك السلميّ التابع له على الموقع الرسمي بـ «المجمّد», والثوار في داريا كانوا يتحدّثون قرابة سنتين من الحصار عن جاهزيَّتِهم للقيامِ بأعمالٍ عسكريّةٍ قاسيةٍ وموجعةٍ للقوّاتِ النظاميّة.
أمامَ ذلكَ كلّه ورغم أهمية ما حصلت عليه المقاومة المسلّحة في داريّا, إلا أنّنا لا نستطيعُ المرورَ بذكرى رحيلِ غياث مطر, شهيد الثورة السوريّة الأعزل دون أن نسأل: أين أصبحَ الحراكُ اللاعنفيُّ في سوريا, ماذا يفعل دعاةُ النضال السلمي, أين ذلك الجدل الذي كنا نسمعه سابقاً وهو يجهد لتوضيح الفارقِ بين نتائجِ الحراك اللاعنفيّ والحراك المسلح, هل مازالَ الطرفُ المسلُّح يؤمن بما في يده بتمويله ومصدره وأجنداته كما كان سابقاً, هل تزعزعتْ قناعاته أم رَسَخَتْ بلا شكوك.
هذه الأسئلةُ التي تجد لنَا سبيلاً برغم كل ما يحدُثُ على الأرضِ السوريِّة من موتٍ وحصارٍ وفقرٍ وتجويعٍ ومآس إنسانيّة وجرائمِ حربٍ, لابأسَ بأن نأخُذَها على محملِ الجدّ فهي ليستْ حنيناً نسرحُ في رغبةِ استعادتِه, بلْ أسئلةً جديةً تبدأُ بما إن كانت تلك الحملات الافتراضية والشعارات واللوحات والتصاميم التي تحصلُ اليوم هي البديل الحقيقي لكل ما يستطيعُ دعاةُ اللاعنف فِعْله,, ولا تنتهِي به.