تقف المذيعة داخل أحد الأفران الآلية المؤسسة في سبعينيات القرن الماضي في سوريا، وترى بين الأيدي المتدافعة من الشباك الصغير يداً لطفل تحمل أربع بطاقات تتيح كل منها ربطة خبز واحدة للعائلة يومياً لا تصل إلى كيلوغرام واحد، فتنفعل فجأة وتشير إلى الكاميرا لتقترب من وجهه الذي يمتقع وهي تنهره قائلة “لا تغطيها بالطاقية”، فيقول المسؤول بجانبها “ممنوع أكثر من بطاقتين في الدور للشخص”، ثم يتحدث آخر عن “مخالفة إدارية” وضرورة تنظيم “ضبط” في ذلك، فترد عليه “إنشالله تكون العقوبة رادعة”.
لا توجد سابقة كهذه في أي نظام إداري في العالم: أن يطلب مواطن أكثر مما تخصصه له دولته فيلقى عقاباً على ذلك. لا يكفي أن يعطوه خبز بطاقتين وحسب، بل تجب معاقبته! كل هذا لا يحدث مع شخص بالغ وإنما طفل لم يسأله أحد لماذا هو ليس في المدرسة، ولماذا يقف في طابور خبز لمدة خمس ساعات وسطياً في اليوم ليتدافع ويتشاجر مع البالغين! هذا مشهد إعلامي يلخص الوحشية الأسدية.
عندما كنتُ في الغوطة الشرقية، وقبل أن تنتهي فرق الخوذ البيضاء والمسعفون من انتشال الأطفال من تحت الركام وإسعافهم بسبب البراميل العشوائية الملقاة من المروحيات، كانت القنوات الأسدية تأتي بخبر عاجل عن “استهداف مواقع إرهابيي جبهة النصرة بضربات ناجحة” من “نسور الدفاع الجوي”. وقبل أن يجد الأب الخارج طوال اليوم ما يكفي لشراء طعام لأبنائه الذين يتضورون جوعاً ليوم أو يومين بسبب الحصار الذي فرضته قوات الأسد لسنوات، كانت صواريخ الطائرات الحربية تأتي لتقتلهم وتريحهم من جوعهم.
يصعب تشريح انتهاكات عصابة الأسد بحق الأطفال، فهي مركّبة ومعقدة لحال لا يكفي معها ذكر الاستهداف العشوائي للمدنيين بطريقة إبادية، ولا تصوير حال الأطفال في المخيمات خارج سيطرتها، أو في مراكز الإيواء تحت سيطرتها، ولا الإذلال والتشويه النفسي في مدارسها، ولا تعذيبهم في المعتقلات والسجون بما لا يطيقه الكبار، ولا اضطرارهم إلى العمل مع أهاليهم ومواجهة عالم الكبار المليء في سوريا بالتنازع والشجار على كل ليرة كي يؤمّنوا ما يسدّ رمق عائلاتهم.
هناك عالم وحشي كامل تعيشه “سوريا الأسد” لا يستثنى منه أحد؛ ففي حين كان الأفراد يلجؤون إلى دوائر اجتماعية ضيقة قبل بدء حرب الأسد على سوريا كي يجدوا أمانهم الاجتماعي في عالم متوحش حولهم، يصحّ اليوم القول إن هذه الدوائر ضاقت أكثر من السابق، لتقتصر على الأقرباء وربما على الأسرة الصغيرة بعد الانهيار الاقتصادي، وتلاشي القدرة الشرائية لمتوسط دخل الفرد الشهري الذي أصبح يكفي الاحتياجات الأساسية لعدة أيام فقط، وندرة المواد المدعومة القليلة التي يضطر المواطن ليقف على دور كلّ منها لساعات طويلة دون السماح له بأن يجلب لغيره بأكثر من بطاقة واحدة، عدا عن اقتصار الكهرباء في معظم مناطق سيطرة الأسد على ساعتين يومياً، وشلل المواصلات بسبب ندرة المحروقات وغلائها، واستغناء كثيرين عن الغاز المنزلي واستبداله بطرائق بدائية، وعدم القدرة على الاحتجاج بعد أن رأوا ما كان نصيب غيرهم من الاحتجاج.
يحدث كل هذا في مناطق سيطرة الأسد التي لم تشهد منه انتهاكات حربية؛ بمعنى القصف اليومي والتجويع واستخدام الأسلحة المحرّمة، وفي تلك التي استعاد سيطرتها في السنين الأخيرة، ومنها ما شهد تجويعاً وحصاراً يراه معظم من بقي فيها ورفض التهجير أفضل حالاً مما يعيشونه اليوم.
في العيش المتوحش الذي تفرضه عصابات الأسد لا وجود لاستثناءات، لا لطفل أو مستضعف أو شيخ أو امرأة أو شابة وشاب مقبلان على الحياة، إلا في صور تجميلية تتصدرها “وردة الصحراء” مع أبناء قتلى قوات الأسد أو جرحاها، وتقارير تلفزيونية وهم يتشكرون “السيدة الأولى” على منحة أو هبة لا تتعدى قيمتها بضعة دولارات في الشهر. فيما يتبعها تقارير في الأسواق والمذيعة تتبع المخالفين، يرافقها مسؤول ليكتب الضبوط والمخالفات على من يبيع بزيادة لا تتجاوز أحياناً قيمتها عشرة سنتات ويتوجوها بمنظر الشمع الأحمر على غلق المحل، وليستجوبوا أطفالاً على بسطات خضراوات عن الفواتير أو بسطات خبز عن كيفية سرقتهم له من الفرن! وليستمعوا إلى شكاوى المواطنين وهم يتحدثون عن جشع التجار وتلاعب الصرافين بسعر الدولار وسوء تنظيم الإداريين في مؤسسات المواد المدعومة…
أما الذي أنفق كلّ موارد سوريا وباعها إلى قوات محتلّة من أجل استمرار حربه، وأوصلها إلى الانهيار.. فلا وجود له. المذنبون هم ذلك الطفل مع أربع بطاقات، والآخر الذي لا يملك الفواتير، والناس الذين يأكلون بعضهم بعضاً، وهذا الشعب الذي يستحقّ كل ما جرى له!
من درعا، مواليد 1986. طبيب أسنان وكاتب وناشط مدني يعيش في الغوطة الشرقية