لم تكن نكبة فلسطين نكبةً لفلسطين وللفلسطينيين وحدهم، بل نكبة لشعوب المنطقة العربية برمتها، وليس ذلك لأن النكبة كانت إعلاناً لقيام دولة إسرائيل وتهجير الشعب الفلسطيني فحسب، بل لأنها كانت بداية لسقوط دول المنطقة تحت حكم العسكر، وبالتالي سقوطاً لمعنى الاستقلال، ولمفهوم الدولة ذاته، الذي كان يُؤمل أن يساهم الاستقلال في تحولها إلى دولة/أمة، وكياناً عقلانياً مؤسساتياً حديثاً، فجاء العسكر، بدلالة تحرير فلسطين، ليجعلوا من الدولة كياناً استبدادياً لاعقلانياً مختزلاً في السلطة وحدها.
لقد عبّدت النكبة طريق العسكر إلى السلطة، وإزاحة النخب السياسية المدنية عن واجهة الحياة السياسية التي تشكلت قبل/ وخلال مراحل الاستقلال الأولى، وقد دعم تقدم العسكر نحو السلطة ثقافة شعبية رأت فيهم مخلصين، ووعي زائف بالقوة المفترضة لهم، تعوض الاحساس العارم بهدر الكرامة الناتج عن فقدان فلسطين. لكن تقدم العسكر نحو واجهة الحياة السياسية في غياب فاعلية “الشعب” ومفاهيم المواطنة، وعدم تشكُّل دولة/أمة، جعلهم يتجهون؛ بوعي منهم أو دون وعي، نحو الولاءات العشائرية والمناطقية والطائفية، حتى لو كانت شعاراتهم وأحياناً “آمالهم الصادقة” متجهة نحو بناء الدولة القوية وتحرير فلسطين. فالطبيعة العسكرية المضادة للدمقرطة، وللاعتراف بالاختلاف، والمحكومة بفرض الطاعة عن طريق القوة العارية والولاء المطلق، لم يكن لها أن تحقق مثل ذلك الولاء؛ في ظل غياب “الدولة الأمة”، دون الاعتماد على القرابات الأهلية والعشائرية والطائفية والمناطقية.
وفي المحصلة نقل العسكر معهم، أصولهم الأهلية وعقائدهم وطرائق تفكيرهم الريفية والتقليدية، إلى الدولة المُسيطَر عليها من قبل السلطة السياسية/العسكرية المحض، والتي باتوا هم قادتها. فأصبحت الدولة عبارة عن نظام سياسي عشائري في المضمون، لكنه قائم فوق مؤسسات دولة في الشكل.
النظام العسكري الذي دشنته الانقلابات، ثم استقر مع عبد الناصر، تمأسس وأصبح نموذجاً إرشادياً عند كل من معمر القذافي وحافظ الأسد وعلي عبدالله صالح وصدام حسين. وقد حكم جميع من سبق ذكرهم بدلالة الطريق الطويل إلى القدس، لكن دولاً كبرى كمصر والعراق وسوريا، كان لا يمكن ضبط شعوبها عسكرياً دون صناعة جيوش جرارة، مهمتها المعلنة هي تحرير الأراضي المحتلة، بينما مهمتها المضمرة والحقيقية هي إخضاع المجتمعات وعسكرتها لتسهيل ضبطها، والسيطرة على مقدراتها البشرية والطبيعية والحيوية، لصالح بقائها في السلطة ثم توريثها.
بعد استقرار الأنظمة العسكرية التي لم تتلق إلا الهزائم من اسرائيل، ثم عقد اتفاق “كامب ديفيد” مع مصر، وانشغال العراق بحربها الايرانية الطويلة، لم يبق إلا سوريا التي استقرت “كعشيق مرذول” لإسرائيل، بجبهة آمنة وصامتة صمت القبور الموحشة.
الدولة الوحيدة في محيط اسرائيل، التي لم تتحول إلى سلطة مركزية مسيطراً عليها من قبل العسكر كانت هي لبنان، وهذه بقيت كمجموعة “دول” في “اللا دولة”. ولذلك كان لبنان هو المجال الحيوي الوحيد؛ إلى جانب فلسطين ذاتها، الذي حوى مقاومة، بل مقاومات، متعددة، فلسطينية ولبنانية، ومن أحزاب وتيارات متعددة، حزبية وشعبية. وهذا الوضع اللبناني بقي على حاله مزعجاً لإسرائيل وللأنظمة العسكرية معاً، حتى الدخول السوري إلى لبنان والاقامة فيه، ثم السيطرة التدريجية على جميع مكوناته بعد ترحيل منظمة التحرير عن أراضيه باتجاه أراض تونس البعيدة. واستبدال المقاومة الشعبية غير المسيطر عليها من دولة بعينها، بـ “مقاومة” تابعة، ومُسيطر عليها من دولتين حليفتين هما سوريا وإيران.
المقاومة التابعة والطائفية، ممثلة بميليشيا حزب الله، سارت على خطا الأنظمة العسكرية التابعة لها تماماً، بل الأداة الضاربة لتلك الأنظمة في لبنان. وأصبحت بمثابة السلطة المرعبة للشعب اللبناني (سلطة الخراب)، وأداة لابتزازه سياسياً والمزاودة عليه، متكئةً على مشجب التحرير ذاته الذي اعتمدته الأنظمة منذ النكبة.
ربما كان مفيداً في تجربة العسكر وتجربة المقاومة المنبثقة عنها، أن تعي شعوب المنطقة أنها لم تكن إلا مطية للأنظمة ومقاوماتها في مشاريع سلطوية استعبادية ليس لها علاقة بالتحرير ولا بالقدس، وأن مقاومة مدنية كانتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين، كانت أهم وأنجح من كل الانتصارات الإلهية لحزب الله وحماس، والانتصارات الخلَّبية للأنظمة العسكرية العربية منذ النكبة، وأن الطريق الوحيد لتحرير القدس هو تحرير الشعوب العربية من أنظمتها الطغموية الحاكمة، وبناء الدول المدنية الديمقراطية على أسس المواطنة والحرية.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.