Site icon مجلة طلعنا عالحرية

طريق الحرية وعرة لكنها تنتهي بينبوعها

هيفاء الحاج حسين

أطلّ من غربتي على المشهد العام للعالم، فأرى خراباً كبيراً في المنظومة الأخلاقيّة والقيميّة، لم ننجُ منه حتى نحن طلاب الحرية. كان صادماً جداً بالنسبة لي موقف العالم من ثورتنا، وصادماً أكثر التعرّف على تشوّهاتنا كشعبٍ خضع لأكثر من أربعين عاماً للّذل، وقد أزاحت الثورة النقاب عنها.

خسرت حياتي التي كانت مُتمثّلةً بعملي، وبيتي وأهلي ووطني، والأكثر إيلاماً خسارتي لزوجي، حبيبي، بعد حربنا الطاحنة مع الحياة، متسلّحين بالحب والإيمان بغدٍ مشرق، واقتراب موعد قطافنا بشيخوخةٍ هنيّة في كوخ ومزرعةٍ صغيرة تكون امتداداً لرؤيتنا عن الجمال والعشق والحرية.

نادته الثورة فلبّى النداء، وابتلعه صوتها الهادر شهيداً تحت التعذيب.

وها إنّني اليوم عالقةٌ مع ابنتي، وهي عازفة غيتار وصديقتها فنانة تشكيلية.. لا عمل، ولا أهل، ولا حقوق، في غرفةٍ لا تصلح للسكن الآدمي، تسببّت لي بكسرٍ في الركبة لأننّي أساساً أعاني من شلل في الرجل ذاتها. أحتاج لرعايةٍ صحية لا يوفرها لي ظرف السكن ولا البلد، لكأنني لم أدرس يوماً في كلية الفنون الجميلة، لا مناخ موائم للرسم ولا لتأليف الأغنيات، ولا للمضي قدماً في الكتاب الذي كان حلم حياتي أن أنجزه وأقدمه هدية عرفانٍ لوطني.

مع ذلك فأنا أدفع القليل ممّا يدفعه الكثير من السوريين من أثمانٍ باهظة، لقاء حلمنا المشروع بحياةٍ تليق بإنسانيتنا.

في كل يومٍ، وكلما سمعت عن سقوط المدن واحدةً إثر أخرى أفكّر: هل كان الأمر يستحق؟

قبل الثورة كنت أرقب الإذلال الذي يمارَس على الناس، واستسلامهم له بكل خنوع، وأتساءل: هل يأتي اليوم الذي ينتفض فيه هؤلاء؟ فتتجسّد أمامي مباشرةً صورة واضحة لما سوف يحدث:

خرابٌ كبير وتضحياتٌ هائلة، وغيابٌ للنخبة التي ينبغي أن تنظّم التحرك وترسم لما بعده،  غيابٌ تأكّد لي من خلال تماسّي المباشر مع المثقفين في مكان عملي بالمركز الثقافي، وملامستي لسلبيتهم وعجزهم عن أن يكونوا صوت وضمير الناس.

وحين انطلقت أوائل الأصوات من درعا ودمشق تملكني شعورٌ مزدوج بفرح الولادة وبالهلع من الآتي. كنت أمنّي النفس بأنه أمام سطوع الحقيقة، سوف تقف إلى جانبنا كلّ الدول التي تدعي الديمقراطيّة، وسوف تخجل من دمائنا وهول ما يحدث في معتقلاتنا.

لست أنسى روعة صوت المظاهرة الأولى التي خرجت في بلدتي تنادي بالحرية، لقد خرج فيها جميع من أعرف، والكثير ممن لا أعرف، وكان الأمر كما لو أنها معجزةٌ تتحقق.

تمّت ملاحقة الكثيرين ممن خرجوا فيها، وتمّ تأديبنا لاحقاً بحوادث قتل مختلفة الظروف والأسباب، أوصلوا من خلالها رسالة للجميع مفادها: أنتم في فكّ السبع، نحيط بكم من كل الجهات، وليس أسهل من سحقكم جميعاً واحتلال بيوتكم.

كان زوجي من أوائل المعتقلين في البدايات، وحين خرج من اعتقاله الأول في حماه 2011، قرّر أن يغادر مصياف ليعمل في دمشق مسقط رأسه، ويدعم الثورة من هناك، لكني حين سمعت باعتقاله الثاني 2013 في دمشق أيقنت بأنّه لن يعود هذه المرة، لأنّ ظروف المعتقلات صارت أقسى، والضوء الأخضر أُعطي للنظام كي يفعل ما يشاء بشعبه، والانتهاكات أفشيت على العلن دونما استحياء، والمقابر الجماعية ذاع صيتها دون أن يستطيع أحدٌ إيقافها أو محاسبة مرتكبيها.

لقد شهدتُ على محرقةٍ يُرمى فيها كلّ الشباب من المؤيدين والمعارضين، وأوّلهم الرافضين حمل السلاح.

كان ينبغي أن أنجو بولديّ

تعرّفت في اسطنبول على شابٍ بولندي رائع، على هامش دعوتي لمشاركةٍ فاشلة في حفلٍ لفعاليات المجتمع المدني في المدينة، تبرّع أن يرسل لابني فيزا عمل في بولندا، وفعل، وكان أحد بقع الضوء القليلة التي شهدتها على المستوى الخاص منذ اندلعت الثورة؛ فأنا لم أتلقَّ أي مساعدةٍ من أي جهةٍ أو منظمة رغم أنني أحمل مشروعاً فنياً فقدت حماستي له بعد الكثير من الخيبات.

 لقد حمل الكثير من السوريين معهم إلى بلاد اللجوء كل مساوئ النظام الذي خرجوا ضدّه: الأنانيّة، الادعاء، الانتهازيّة، حب الظهور، الفوضى، وحب الزعامة ورفض الآخر. وبالرغم من أنّي فقدت ثقتي بكل المنظمات والجهات الحقوقية، لكنّي لم أفقد إيماني بالإنسان، ما زلت أؤمن بأنه قابل للتغيّر والتطوّر، مهما بدا الأمر مستحيلاً.

الطريق ما تزال في بدايتها، وسوف تكون شاقة وطويلة، لكنها خيارنا الوحيد، سوف نترنح، ونخطئ، ونضلّ، وسوف تكون أخطاؤنا هي العلامات للدرب، هي دليلنا للوصول، سوف نكفر بالكثير من الثوابت، ونؤمن بالكثير من الأوهام، ونتعثر بين خطأ وصواب. لكنها طريقنا الوحيدة، ولابد سوف تؤدي بنا في نهاية المطاف إلى الينبوع.

وسوف يعيش شهيدي في حكاية البطولة التي سوف يقصّها ابني على ابنه أو على حفيده ربما.

 شهيدي الذي أعشق، وأفتقد، وأداري حزني عليه بكل ما علمتنيه الحياة من حيلٍ ومناورات، رفضاً مني لحالة الإشفاق على الذات، وحرصاً مني على مهابة وجلال هذا الحزن، سوف تحييه شمس الحرية مُجدداً قصةً ناصعةً عن بطولة شعبٍ واجه وحشيّة عالمٍ بأسره.

 “حسام يوسف الظفري” الفنان الذي كان يصنع من قطعة الخشب تحفةً تكاد تتكلم عن ماضيها الحميم في الغابة، والمصوّر الذي كان يلتقط الجمال في دعسوقةٍ تطير، وفي حجرٍ عتيقٍ متهالكٍ من بيت جده الدمشقي، أو من قلاع مصياف العريقة.. الفدائيّ الذي هبّ لمساندة فتح خلال الاجتياح “الإسرائيلي” لبيروت 1982، والذي التهب حماسةً في “حرب تموز” وحاول التطوّع لدى المقاومة ورفضوه، والذي خرج بأوّل مظاهرةٍ من الجامع الأمويّ في دمشق، أدرك بفطرته الأصيلة أنّ الطريق إلى القدس يمر عبر الخلاص من الأنظمة الاستبدادية التي تدعم “إسرائيل” بادعاء الوقوف ضدّها.

السلام لروحك يا حبيبي!

وها أنني أهتف لك من عِظم عجزي وقهري:

أشتاقك جداً، وأحتاجك، والدرب ما تزال طويلةً.. طويلة..

Exit mobile version