على الرغم من كل الكذب والزيف وقلب الحقائق الذي يمارسه إعلام النظام منذ بداية الثورة السورية إلى اليوم، مازالت “البروبغندا” الإعلامية التابعة له ولحلفائه تبدو أكثر تأثيراً في الرأي العام المحلي والعالمي من إعلام الثورة، لماذا؟
هل كان ذلك بسبب الضعف وقلة الخبرة في إعلام الثورة وإعلامييها، أم لأن إعلام النظام كان أكثر احترافية في ايصال الخبر والمعلومة والايحاء للمتلقي من إعلام الثورة؟ أم لأن قوة الوهم عند البشر هي فعلاً أكبر من قوة الحقائق؟ أم لأن الحقيقة هي بالأصل تُصنع صناعة وغالباً ما يصنعها الأقوى و يصوغها المنتصر؟!
لابد بداية من الإشارة إلى أنه ليس هناك إعلام “عقائدي” للثورة على طريقة النظام والمتحالفين معه، وعندما ظهرت قنوات “عقائدية” مضادة لإعلام النظام في بداية الثورة، أساءت لصورة الثورة في الواقع أكثر مما خدمت أهدافها وتطلعاتها، كما أنه يمكن ملاحظة أن جمهور الثورة بالعموم أكثر تشكيكاً وانتقاداً لإعلامها من جمهور النظام، بل إن الميل العام ينحو باتجاه طلب الدقة والموضوعية شبه التامة من إعلام الثورة، في الوقت الذي يتم فيه تداول الأخبار والمعلومات الخارجة من قنوات النظام على أنها حقائق، وليس أقل من ال”BBC” أو “فرانس 24” وغيرهما من يفعل ذلك.
مما لا شك فيه أن تكرار الكذب يحوله إلى حقيقة واقعة (ولو كانت مؤقتة)، ومما لا شك فيه أيضاً أن النفس البشرية سهلة الانخداع وسريعة التصديق كما علّمنا ابن خلدون، ومن المعروف أن الكذب الإعلامي الممارَس من قبل النظام وأعوانه اقتداء بالدعاية النازية، هو كذب متواتر ومركزي وشمولي ومحكم التنظيم، مثلما هو سائد في كل الأنظمة الشمولية، ولذلك فإن مرحلة الانكار التي ابتدأ بها النظام تجاه الثورة، مازالت ثابتة ومتمترسة في مواقعها حتى اليوم، لا بل إن انكار الثورة وتعريفها على أنها مؤامرة كونية وعصابات مسلحة ومندسين ومنظمات إرهابية وميليشيات طائفية وحرب أهلية…الخ، لم يتوقف عن التحول في كل يوم جديد إلى واقع، بل إلى الواقع.
يدافع السوريون عن حقيقة يعرفها العالم أجمع، وهي أن نظامهم طغموي واستبدادي ولابد من تغييره، لكن العالم الذي يطالب السوريين بالانضباط والانتظام وتقديم البديل الواضح والمنظم و”الحضاري” عن النظام، يرمي بالسوريين في أحضان العبث والعنف والفوضى، ويساهم في خلق كل الشروط المثالية لتلك الفوضى وذلك العنف، عبر المراوحة بين التدخل وعدم التدخل ولعبة السماح والمنع والتقنين وغيرها، الشيء الذي يعود وينعكس في عدم قدرة السوريين على الانتظام، إن كان بالمعنى السياسي أو العسكري أو حتى الاجتماعي والمدني.
من هنا تصبح الحقيقة تابعة للواقع ومجرياته، بحيث يتناسى العالم قوة الحقيقة التي لا ينفك عن تأكيدها، أي انتهاء صلاحية النظام، لصالح الواقع الذي يساهم هو بخلقه، والذي لا يكف عن التبدل والتشظي والتفتت العنيف، فتتغير أولوياته من جديد ويصبح داعماً أو مشاركاً أو ساكتاً عن دعم النظام القائم طالما أن البديل الأكثر قوة وتأثيراً وتنظيماً عنه هو الإرهاب.
ربما يجدر القول إن العلاقة دائماً تفاعلية بين الإعلام والواقع والقوة والانتشار، وأن هناك صراعاً دائماً بين القوى المؤثرة في الواقع ومن بينها الإعلام بوسائله المختلفة، لكن الجدير بالذكر أيضاً أن إعلام الثورة المتنوع والمتعدد والمختلف والمتنافس والمتنافر أحياناً، ورغم كل المثالب والنقائص والنقائض التي تعتريه، يبقى الأكثر تعبيراً عن روح الديمقراطية، والأكثر التزاماً بحرية الرأي والاختلاف والتعدد، والأوفى للحقيقة التي يحاول السوريون التمسك بها، والدفاع عنها، رغم ضعفها أمام سلطة المال والمافيات الدولية المتحالفة.
لابد من التذكير أخيراً أن حرية الرأي والصحافة والإعلام، بالإضافة إلى الحريات السياسية والمدنية، كانت دائماً وخلال عقود أربعة أهم محرمات النظام على الإطلاق تبعاً لأهميتها وخطورتها في الوقت ذاته، ولذلك فإنه لا مستقبل لسوريا أو في سوريا دون تلك الحريات الرئيسة، التي تتفرع منها وعنها قدرة الناس على مراقبة السياسة والسياسيين، أي انتاج الديمقراطية والمجتمع المدني وبناء البلاد على أسس جديدة.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.