علي فاروق
الساعة تتجاوز العاشرة مساءً، كان قد مر على وجودي في الفرع 25 يوماً، البرد شديدٌ جداً، والظلام دامسٌ، والمياه تغطي نصف أرضية المهجع، كنت مستلقياً على بطانية عسكرية قديمة، متدثراً بأخرى، بين النوم والصحو، كانت أفكارٌ وصورٌ متناقضةٌ ومتداخلةٌ في آن تقفز في رأسي، كنت أهلوس! ربما ستلازمني تلك الحالة في السجون الخمسة التي تنقلت بينها، وستزورني بين الفينة والأخرى خارجها..
خُيّل إلي أن صوتاً يناديني، بدا كصوت “محي الدين”، شابٌ دمشقيٌ، وحيدٌ لعائلته، كان شاويشاً قبل مجيئي، وكان يصلي بالسر، قبل أن يشي به “‘أحدهم”، ليُعزل، ويودع في المنفردة الأولى، ليخرج منها لاحقاً، إلى سجن صيدنايا..
لماذا خرج “محي الدين” من المنفردة؟ ولماذا يناديني؟ هذا ما خطر لي، دون أن أفتح عيني..
في ذلك الفرع كان الشاويش هو المسؤول عن نزلاء المنفردات؛ يدخل الطعام إليهم، ويسمح لهم بدخول الحمام، ويغلق عليهم الأبواب، وكان أقدم الموجودين في الفرع، وهو “جابر”: طفل من الغوطة، لا يتجاوز الخامسة عشرة، نزيلاً في المنفردة الثامنة، أصيب “جابر” بالشلل، بسبب التعذيب، لذا كان يقضي حاجته داخل زنزانته، في زجاجة بلاستيكية.. كان القيح، والصديد يسيل من الجروح، و‘‘الخراجات’’ التي غطت جسده النحيل، وفوق ذلك كان مصاباً بإسهالٍ شديدٍ، وهو أحد أخطر الأمراض المعدية، التي تصيب المعتقلين، كانت روائح الإنتان تتسلل من المنفردة إلى المهجع، فتحول فضاءه إلى جحيمٍ لا يطاق.
الشاويش “أبو عماد”، شاب عشريني، أميٌّ، ليست له أي علاقةٍ بالثورة، شخصٌ سيءٌ، ووضيعٌ، عَمِل لصاً قبل اعتقاله، على ما أخبرني بنفسه. أما كلامه، وتصرفاته فكانت تشي بعقدٍ نفسية مركبة..
“أبو عماد” كان قاسياً، ومتسلطاً جداً، وكان الجميع يخافونه، ولا يجرؤون على مخاطبته، كان يفتقد أي رادعٍ، أو ضمير، ولسببٍ لا أعلمه، كان يكرهني جداً، وكان يشي بي بشكلٍ شبه دوريٍ، إلى السجان المناوب، ليعاقبني في الخارج..
ناداني “أبو عماد” في أحد الأيام، ذهبت إليه، فأخبرني أنه قرر تكليفي بمسؤولية نزلاء المنفردات، وطلب مني تحديداً إدخال الطعام لـ “جابر”، وإفراغ زجاجة فضلاته..
كان واضحاً سبب قراره، فقد أراد تجنيب نفسه مخاطر الإصابة بمرضٍ ما، كما أراد إذلالي، وإهانتي على ما ظَن واعتقد. لكني في الحقيقة سُعِدت بتكليفه، ولم أجد فيه أي حرجٍ، بل على العكس، فذلك سيساعدني على كسر روتين أيامي الرتيبة، وربما يمكنني من مساعدة زملائي، من خلال هامش حرية الحركة والكلام التي سأنالها، فيزداد تواصلي معهم، وربما أتعرف على قصصهم، وحياتهم، وتجاربهم داخل السجن، وخارجه..
عندما سمعت صوت “محي الدين” ينادي، شعرت بالقلق قليلاً، فقد خطر لي أن “أبا عماد” سيكتشف أنني أتعمد ترك أبواب المنفردات مفتوحة ليلاً، ليستطيع أصدقائي الدخول، والخروج براحة، لكني لسببٍ ما، لم أبالِ، ولم أفتح عيني، تلاشى القلق كلياً، عندما قفزت إلى رأسي فجأةً، صورة وجه صديقتي، أه.. ما الذي تفعله الآن؟ وقبل أن يتوالى مجيء صور أخرى، عاد الصوت من جديدٍ، هذه المرة كان يُلح: “علي.. علي.. قوم”..
فتحت عيني، فلم أجد “محي الدين”، شعرت بالراحة قليلاً؛ كان “أبو عدنان”، الرجل الخمسيني، هو من ينادي، لاحظت أنه كان يرتجف، ظننت لأول وهلةٍ أنه مريضٌ، أو أنه يختنق، ربما..
ــ شبك “أبو عدنان”، شو في؟
ــ قوم شوف “أبو محمد”، يمكن مات!..
“أبو محمد” شابٌ أربعيني، من إحدى بلدات الغوطة الشرقية، أبٌ لثلاثة أطفال، صبيين وبنت، كان لا ينام تقريباً، يقضي معظم وقته في الصلاة أو الدعاء، سراً بالطبع، وكان يبكي طول الوقت، في كل مرة أجلس إليه كان يحدثني عن أولاده، وكم هو مشتاقٌ لرؤيتهم واحتضانهم والجلوس معهم وتناول الشاي كما اعتادوا أن يفعلوا يومياً.. كان يتحدث باستمرارٍ عن ابنته الصغيرة، وصرت لكثرة ما حدثني عنها، أتخيل وجهها الصغير، الذي لوحته الشمس، وضفائرها الذهبية الطويلة، وفستانها الوردي، ودميتها الصغيرة ناقصة الذراع!..
أخبرني أيضاً أنه قضى (37) يوماً دون أن يستطيع قضاء حاجته، بسبب إصابته بالإمساك، وهو ما يحصل لأغلب المعتقلين في بداية اعتقالهم..
للمفارقة أصيب “أبو محمد” بمرض الإسهال قبل أسبوعٍ تقريباً، واليوم كان مُتعَبَاً جداً، حتى إنه لم ينهض لتناول نصف الرغيف المقدم كوجبة عشاء، ظلّ مستلقياً. كان يتألم ويتأوه، لكن صوته تغير ذلك المساء..
نهضت مسرعاً إلى حيث يستلقي “أبو محمد”، جلس “أبو عدنان” قبالتي، وضعت سبابتي على معصم “أبي محمد”، لا يوجد نبضٌ، فنقلت أصبعي إلى رقبته، لم أشعر بنبضه أيضاً، قربت كفي من أنفه، لا آثر لأنفاسه، وأخيراً وضعت أذني فوق صدره، لا حياة..
أدركت منذ لحظة اقترابي الأولى أنه ميتٌ، لكن لسببٍ ما قمت بتلك العمليات، لعلني أردت أن أكون متأكداً، قبل إعلان وفاته، أو لربما رغبت في تأخير مواجهة الموت، والتسليم بانتصاره على أحدنا، ما أمكن..
بدأ الرفاق بالبكاء، فيما بدأ بعضهم بالصلاة، وبترتيل آيات القرآن الكريم..
لم أبك، ولم أصلِّ أيضاً، عدت بهدوءٍ للاستلقاء في مكاني بجانب “عابد”، وبدأت أحدق في الظلام، كنت خائفاً جداً، أرعبتني فكرة أن الموت كان هنا، كان قريباً جداً، وعلى بعد أمتارٍ قليلةٍ مني، ورغم أن تجربتي معه -أي الموت- قديمةٌ، إلا أنها لم تكن يوماً بهذا الشكل، ولا في مثل هذه الظروف، بدأ خدرٌ ثقيلٌ يتسلل إلى أطرافي..
قطع صوت “عابد”، الذي لم يتحرك من مكانه، خلوتي المرعبة، كان “عابد” يغني بصوتٍ خافتٍ، أغنيةً لـ “فيروز” على ما أذكر، نظرت في وجهه، ونظر إلي، لم نتكلم، لم أخبره كم كرهت صباحات البعث الاشتراكية، التي كانت تبدأ على أنغام “فيروز”، استمر يغني، دون توقف، وبقينا ساكنين، لم ننم في تلك الليلة..
في الصباح جاء سجانٌ، وسحب جثة “أبي محمد” من رجليه، وألقاه في مؤخرة شاحنة عسكرية، ومضى..
مواليد العام 1981، يحمل إجازة في الحقوق، طالب ماجستير في العلاقات الدولية – كلية العلوم السياسية، ومعتقل سابق، كاتب رأي، مهتم بالقضايا السياسية، والقانونية، والاجتماعية.