Site icon مجلة طلعنا عالحرية

شوارع.. / حسين الزعبي

شوارع دمشق

لا شيء أكثر من الشوارع تملأ ذاكرة المُهجّرين، نازحين كانوا، أم لاجئين، أو حتى مغتربين. لا أملك سبباً منطقياً لهذا الافتراض الذي أعتقده، قد يكونُ السببُ ما تختزنه الذاكرةُ من مشاهد عبث الطفولة أو تمرّد المراهقة؛ فالشارع عادة هو ساحتها وملعبها، فعليه وقف ذاك المراهق ينتظر حبيبته، وفي أحد مداخله المعتمة، ربما التقاها مرة وتلعثمت كلماته وضاعت كما ضاع الوقت، فالآن، أو بعد قليل سيمر أخوها من الشارع نفسه.

على الشارع نفسه، وربما غيره كانت “الشلة” من أبناء الحي تجتمع لتدخين السجائر بحذر، إذ قد يقبل والد أحدهم فجأة. وفي شوارعَ بعيدة عن الحي كانوا يسيرون؛ فليست حصة الرياضيات أو “القومية” بأمتع من ذلك “السيران” تحت شمس الربيع، ربما كان يتوجب على من يوزع الأيام الدراسية مراعاة ذلك.

بحثت في معاجم اللغة فلم أجد تعريفاً للشارع، بل للشوارع المشقوقة في ذاكرتي، الترابية منها، حيث ريف حوران، ولا المعبدة “المزفتة”، لم أجد شارعاً في معاجم اللغة يتحدث عن “الشارع العريض” وشباك جارنا المطل عليه، لا أعلم حتى الآن من هو المسؤول عن كسر زجاجِ شباك بيت الجيران، أهو الجار الذي أصرّ أن يجعله مطلاً على الشارع؟ أم هو ذنبٌ إذ لم نتقن تسديد الكرة؟، لعل الذنبَ ذنبُ الشارع العريض الذي تحول لملعب كرة قدم.

بحثت في معاجم اللغة فلم أجد شارعاً كذاك الذي يدخلني إلى دمشق تاركاً بعض “جنوبي” هناك في لحظات المغيب، أو قبلها، أو بعدها، ولا حتى في ساعات الفجر، ولا قبلها، لم أجد تلك الأصوات، بصخبها ببشاعتها، بجمالها، وأنى للمعاجم أن تأتي بمثلها وبمثل ذاك الشارع الذي يجعلك تيمم شطر حمص!!.

بحثت في معاجم اللغة وقواميسها عن شارع يجمع الفقير والغني وبقية متناقضات الحياة بقبحها وجمالها فلم أجده إلا ممتداً في ذاكرتي من جامع البشير إلى مستشفى فلسطين، حاولت أن أراه في أوروبا، رأيت الكثير من الجمال لكنني لم أشتم رائحة الزيتون و”المخلل” تنبعث من محال يقصدها من ضاقت بهم الدنيا ومن رحبت.

لا شيء يفسد متعة استرجاع جمال المكان وعبقريته إلا أنين الجوع ومشاهد أشلاء المكان، أفرّ هارباً من ذاكرتي إلى ذاكرتي مغادراً إلى دمشق العتيقة لتعاتبني وأعاتبها وأسألها هل مازالت السماء تسير على الطرقات القديمة حافية؟ أحقاً مازال الغريب ينام على ظلّه واقفاً؟ أتطير الحمامات خلف سياج الحرير؟ هل يواصل فعل المضارع أشغاله الأموية؟!

يداهمني صوت من رحلوا قادماً من بعيد من ذاك الشارع.. مظاهرات! لا لا، هي أهازيج، بل مظاهرات..حشرجات.. حرية!

Exit mobile version