Site icon مجلة طلعنا عالحرية

شريكات لا تابعات

أكثر من أربعة أعوام مضت على تكريس وقتي وجهدي من أجل العمل في حماية المرأة والطفل. لم يغب عن بالي يوماً وجه تلك المرأة التي كانت السبب في تحفيزي لأسلك ذلك الطريق حتى لا تعاد قصة “مارية” من جديد في سوريا.

مارية؛ البنت التي دخلت الحياة الزوجية وهي في الثالثة عشر ربيعاً. كم من نساء سوريا كمارية؟

كم من فتيات انتهت حياتهن واختزلت في الإنجاب وتربية الأطفال والأعمال المنزلية؟..

أحاول أحياناً التفكير فيمَ كنّ سيصبحنَ لو أتيحت لهنّ فرصاً لإكمال تعليمهنّ كما أتيح لي!

كيف سيكون شكل المجتمع السوري لو لم يكن الزواج المبكر والقسري للفتيات عادة من عادات مجتمعنا؟

فتاة جميلة لعائلة غنية، ولكن ذات عقلية عشائرية. تعلمت القراءة والكتابة فقط لتسيير أمور حياتية بسيطة. قالو لها “ما حاجة الفتاة للتعليم؟ الفتاة خلقت لتكون سيدة منزلها؛ تقوم بواجباتها المنزلية والزوجية وتربي أطفالها”!

تقدم لمارية ثلاثة من أبناء عمومتها لخطبتها. وارتأى الجد ودرءاً للفتنة بين أبناء العائلة الواحدة وبموافقة الطفلة مارية أن تتزوج بالغريب، على الرغم أنه لم يكن من عاداتهم. 

من سوء حظها أن الغريب لم يكن ذو مال أو جاه، ولكنه يكبرها بعشرة أعوام، وهو من عائلة منفتحة، ويتمتع بذكاء حادّ وشخصية جذابة وآسرة بالنسبة للفتاة الصغيرة التي لم تر شيئاً في هذه الحياة سواه. 

أنجبت مارية ابنتها الأولى وهي في الخامسة عشر. تروي أن ابنتها لم تبت ليلة في منزلها حتى بلغت الأربعة أشهر؛ تحملها بين يديها الصغيرتين الحائرتين، وتبكيان معا! وكان الجد يقول للجدة: “طفلة تحمل طفلة”.. ويضحك الجميع. كانت الجدة تروي للطفلة فيما بعد هذه الحكايا لتؤكد لها أنها من قامت بتربيتها. 

بدأ الزوج عمله الخاص بمساعدة من زوجته التي كانت ترى فيه الدنيا وما فيها؛ فهي الفتاة التي تربت على أن تساعد زوجها بكل السبل الممكنة. باعت “صيغتها” وأعطتها لزوجها لكي يفتتح مشروعه الخاص الأول.

بعد ثمانية أعوام أنجبت مارية البنت الثالثة. كان الامتعاض بادياً على وجوه الجميع. اقترحت الجدة أم الأب أن تسمى الفتاة الصغيرة اسماً يضع حدّاً لإنجاب البنات، فأسموها “منتهى”!

كان يلاحق مارية الشعور بالخجل من فعلتها، فقد أنجبت ثلاث فتيات حتى الآن ولم تنجب الصبي! ترافق هذا الحدث الجلل بتحسن وضع الزوج المادي وامتلاكه لسيارته الأولى، وكان لا يبدي اهتماماً إن كان لديه صبياناً أم بناتاً، ويتعامل مع الفتيات على أنهن سيكبرن ليصبحن سيدات ناجحات، لا يشبهن أمهنّ بشيء. 

تلك الأم التي تقضي وقتها وهي تحاول مساعدة بناتها في وظائفهن المدرسية رغم انها لم تعرف حتى ما هذه الخربشات التي يسمونها وظائف. بالحقيقة هي كانت تتعلم وتدرس مع بناتها لتصبح ما يسميه الزوج سيدة مثقفة!

تزوج الزوج بامرأة ثانية حاصلة على شهادة جامعية، لم تكن تشبه مارية بشيء، زوجة ثانية! متعلمة مثقفة منفتحة وكانت حجته أنه “يريد الصبي”!

شعرت الأم بالانكسار، فهي التي ضحّت وعانت لكي يصعد الزوج، ولم ينلها الا امتهان أنوثتها وكرامتها.

لم يكن لديها خياراً آخر؛ فأهلها لن يقبلوا بابنة مطلّقة، وهي لا تستطيع أن تعيل نفسها، فقررت أن تسخر حياتها لتربية بناتها.

أنجبت لاحقاً صبياً وبنتاً رابعة، وأكملت حياتها وهي تربي أولادها وتشجعهم على التعليم، فكانت تقول لبناتها مراراً وتكراراً من أجل تحفيزهم على متابعة الدراسة: “هل تريدون أن يكون مصيركم كمصيري؟”!

لم يكن من السهل نسيان تلك اللحظة حين تقاعست البنت عن دراستها، فوبّخها الأب أمام أمها: “هل تريدين أن تكوني كأمك أم كزوجة أبيك؟ هل تريدين أن تكوني تابعة لزوجك أبداً؟ هل تريدين أن يتحكم بك رجل؟ هل تريدين أن يفعل بك كما فعلت بوالدتك؟”!

تاهت الكلمات في عقل البنت، فالأم هي المثل الأعلى لكل بنت في العالم. ولكن.. أن تتم إهانة امها بسبب ماض لم يكن لها ذنب فيه، بل كان ابوها شريكاً في الجريمة..! وبعد لحظات من الصمت أجابته: “نعم، أريد أن أكون كما أمي.. أمي التي تتحدت الدنيا بصبرها وعانت الامرين لنكبر.. مشروعها نحن، نجاحنا هو نجاحها”، فردت مارية: “انتو دنيتي انتو يلي رح ترجعولي كرامتي بنجاحكم بالحياة.. درسوا وكبروا وسافروا واعتمدوا على حالكم.. ولا تخلوا حدا يقلكن إنو في شي ما بتقدروا تعملوه، انتو فيكن تعملوا كل شي بهالحياة”.

مع بداية الثورة اعتقلت قوات النظام الأب الذي ناهز الخمسين عاماً. فُقِدَ المعيل وكادت الأم أن تفقد الامل بالنجاح الذي حلمت به العائلة. لكنها أصرّت ورغم انعدام فرصها بالعمل على أن تستمر في تعليم بناتها. والبنات كنّ على مستو عال من المسؤولية.

بحثت البنت لأول مرة عن فرصة عمل، وهي لا تزال طالبة في الجامعة، وأكملت تعليمها وساعدت أخواتها في دراستهن،التي كانت التحدي الأكبر.

في أحد الأيام قالت الجدة للأم: “بناتك حلوات وعم يجيهن عرسان جوزيهن” فردت الأم: “ما برضى لبناتي يعيشو عيشتي لو اضطريت اقطع من لحمي وطعميهن”!

في الثانوية العامة حققت الأخت الوسطى علامات عالية لم يكن لأحد أن يتوقعها، وهي التي قضت أيام دراستها على ضوء الشموع في مدينة حلب، إضافة لموقع البيت الذي كان على خطوط الجبهات الساخنة، وليس هناك مخرج من المناطق المحررة آنذاك سوى المعبر؛ معبر كراج الحجز، الذي قسم حلب لقسمين؛ المعبر الذي تراقبه قناصات النظام السوري ولا يمضي يوم إلا وقد أكل حيوات أناس اضطروا للعبور اليومي للعمل والدراسة في المناطق التي يسيطر عليها النظام.

كانت الأم تقضي يوميا  ساعات من الخوف، أن تعود إحدى بناتها جثة هامدة!

لم يكن لديهن خيار آخر؛ إما أن يتحدين الظروف أو يتزوجن صغاراً، ويعشن تابعات لرجال قوامين على نسائهم.

مضت هذه الأيام، وسافرت البنت الكبرى إلى خارج سوريا مكرهة، عملت وكافحت عن بعد في سبيل إكمال تعليم أخوتها. تخرجت بقية البنات من الجامعة وبدأن ببناء طريقهن المستقل. ومن الممكن أن يأتي يوم ما يرتبطن بأشخاص في الحياة.. كشريكات لا كتابعات.

Exit mobile version