الإعلام، من جهة ما يجب أنْ يكون، هو شاهدٌ على الحقيقة وكاشف لها. ومن جهة ما هو كائن، نقول إنَّه مزِّيفٌ للحقيقة وطامس لها. فهو أداة لرسم الواقع وتحقيقه ورسم التصور عنه بقدر ما هو خبر عن الحقيقة. وطالما أنَّ الإعلام جهد بشري لنقل الأحداث وصناعتها سيبقى عرضة للتلاعب، بواسطة الاحتكار والكذب ونقص الإعلام وزيادة الإعلام، وسيبقى خاضعاً للمصالح في تحقيق الواقع المناسب لهذه المصالح.
ويكمن موضوعه في الحدث الجديد والمفاجئ والمطمئن. فالخبر عن حدث معلوم ومتكرر ما هو إلاّ لغو وثرثرة. ويتمتع الخبر بطاقة كامنة تدفع الفكر والعمل قدماً؛ لذلك يذهب إعلام النظام لاحتواء طاقته الكامنة في حين يذهب الإعلام الثوريّ لتفجير طاقته الكامنة.
الإعلام الرسميّ:
احتكر النظام السوريّ الاستبداديّ الإعلام، وغيّب إمكانية المنافسة المعارضة له لأربعين سنة بشكلٍ ممنهج. ووظّف إعلامه المنفرد لتقديم تصور عنه بوصفه نظاماً مستهدفاً -من قوى عالميّة وإقليميّة ومحليّة- بسيادته الوطنيّة واشتراكيته وقضيته المركزيّة؛ أي فلسطين، ومقاومته وممانعته وعلمانيته وتقدمه… وبوصفه نظاماً خارقاً لطبيعة الأنظمة السياسية عبر التاريخ؛ بفضل قائده الذي ينال القسط الأكبر من التمجيد والتسبيح والمديح كقائد أبدي ورمزيّ ومفدّى وضرورة، والذي لم ولن تُنجِب النساء مثله…
ويعتمد الإعلام الرسميّ على تقنيّتي الكذب والتزييّف مرة، وعلى النقص في الإعلام والمعلومة مرة أخرى. ويُبرِّر ذلك بحالة الحرب والمواجهة والاشتباك غير المباشرة التي أوهمنا بها: فهو نظام محاصر دائماً من الصهيونيّة والإمبرياليّة والرأسماليّة والإرهابيّة ومُعرّض لخطر هذه القوى في الوقت الذي يخوض فيه بالفعل معركة ضدّ شعبه وعمّاله وفلّاحيه وصغار الكسبة واليد العاملة الرخيصة كما كان يصفها في إعلامه وفي كتب التاريخ والجغرافيا والقومية؛ حين يُعدِّد أطماع القوى الخارجية فيه.
في سبعينيّات القرن العشرين، رفض “ممدوح عدوان” الكاتب السوريّ أنْ يضع يده في يد النظام إبان دعوته للانضمام لما سمي آنذاك “الجبهة الوطنية التقدمية” معللّاً رفضه للتحالف بأنَّ النظام “يكذب حتى في النشرة الجويّة”. حتى إننا في الثمانينيات وخلال فترة الخلاف العراقي-السوري كان ممنوع على النشرة الجويّة أنْ تأتي على سيرة العراق. وهناك طرفة تفيد أن مذيع النشرة الجويّة قد اختفى “ببيت خالته” (السجن) لأنه ضُبط يُهرِّب “منخفضات جويّة” إلى العراق.
إذاً، يحتاج نظامنا الاستبداديّ إلى احتكار الإعلام بشدّة لأنه يوفر له ميزتين هما إخفاء طبيعته الاستبدادية وتحقيق طبيعته الاستبداديّة في آن. وما طبيعته الاستبداديّة سوى الإرهاب والتقديس. يخفيهما عنا بالإعلام الكاذب والناقص ويحققهما فينا بالإعلام المخدّر والواهم والمؤسطر. فمن نقص الإعلام لم يعرف السوريون مجازر حماة-الثمانينيات في حينها. ومن فرط الإعلام لم يعرفوا المسؤول عن مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقيّة يوم الإربعاء 21/8/2013. وبهذا يقول (إدغار موران): إنَّ الأنظمة المستبدة “تحتاج إلى الإعلام الناقص، إلى الإعلام الزائف، إلى الإعلام المضاد، وليس ذلك فقط لإخفاء طبيعتها الحقيقية، بل، أيضاً لتحقيق طبيعتها الحقيقية. فلا يستطيع النظام تخليد نفسه وإعادة انتاجها دون إنتاج الأسطورة وإعادة إنتاجها.. دون تصفية الخبر وكبته وتهديمه”. فهكذا إعلام لايخفي إلاّ حكماً (نظاماً) قائماً على الإرهاب والتقديس ويحقّق أساطيره في آن.
الإعلام الثوريّ:
انكسر احتكار النظام الاستبداديّ للإعلام تزامناً مع انطلاق الثورة، وقدمت ثورة الاتصال والتواصل الوسائل اللازمة ولاسيّما الشبكة العنكبوتية منها، ووقعت الأحداث الجليلة والعظيمة بالنسبة للسوريين؛ لأنها طالت أمنهم واستقرارهم وحياة أبنائهم فصار الإعلام السوريّ إزاء أحداث تراجيدية ومأساوية، وجديدة كل الجدة، وغير متوقعة وصادمة. وما هذه الصفات إلاّ صفات ومناخات جيدة لنمو الإعلام الجيد ومضيه قدماً في رصد ومتابعة مثل هذه الأحداث. فقد توفرت الوسيلة الإعلامية وتوفر الحدث المناسب والمتابع والمتلقي النهم لهذا الحدث وتوفر المرسل كناشط فرد أو مؤسسة أو مركز. وبهذا انتقل السوريون من حالة الاحتكار الاستبداديّة الرسميّة، إلى حالة الإعلام الحرّ والمنافس والمتنوع الثوريّة.
وانتشرت وسائل الإعلام بمختلف تنويعاتها المرئية والمسموعة والمكتوبة والافتراضية… فزاد التواصل فيما بين السوريين ولكن قلّ التفاهم. عرف السوريون سوريّة بالشبر، وعرفوا شعبها بتنوعاته وتناقضاته وتضحياته وعرفوا ماضيها وحاضرها وناضلوا من أجل مستقبلها. زادت المعرفة وقلّت الحيلة.
اعتقدت مع بداية الثورة السوريّة أنَّ متابعة الإعلام للأحداث وتنوعه وتنافسه يجعل من فترة التغيير الديمقراطي فترة قصيرة وقليلة التكلفة البشريّة. وأتت الوقائع مكذِّبة لاعتقادي هذا. لاسيّما بعد تسريب وعرض 55 ألف صورة لــ11 ألف معتقل قضوا تحت التعذيب في مجلس الأمن وأمام مؤتمر جنيف وفي الكونغرس الأميركي. فساءلت نفسي مراراً لمن يقدِّم السوريون هذه الصور وهذا الإعلام؟! وما الجدوى من الإعلام في سياق حالة الفوضى في شرق المتوسط وانعدام القطبيّة الدوليّة وفي سياق إتلاف الإيديولوجية الموالية للنظام لكل حقيقة يمكن أنْ تُحدِث فرقاً؟!
لقد مارس الثوار الإعلام كشاهد على الحقيقة وكنابش لها دون أنْ يكونوا مختصين بهذا. فمن شاهد عيان إلى ناشط سياسي أو حقوقي أو إغاثي، إلى مراسل صحافي، إلى التحليلات والقراءات والتحقيقات، إلى المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية والقنوات الإذاعية والفضائية… فعروّا القتل والتعذيب والغرق واللجوء والمخيمات وتجارة الأعضاء ومافيات اللجوء والإغاثة والعنصرية.
لقد قام الإعلام الثوريّ بمهمته في كشف الحقيقة ونبشها على أكمل وجه وعلى مدار اللحظة، وقدم الدليل تلو الدليل على إرهاب النظام ولكن دون جدوى. وقد تعرض الإعلاميون لأبشع أنواع المضايقات التي وصلت لدرجة القتل، ولكن دون أنْ يأبه أحد! فعلى ما يبدو لا يكفي الاتفاق على المعطيات الإعلاميّة، بل لا بدّ من تجاوزها للاتفاق على كيفية رؤيتها ومعالجتها.
يحتاج الإعلام الثوريّ إلى الحريّة لا الفوضى بعد فكفكة الاحتكار، وإلى تعميّق المنافسة والتعدديّة حتى يعيد ألق الحقيقة وثوريتها لانعدام الشروط القبليّة في الإعلام الجيد.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.