يوسف صادق
“لأنّ هذه الأجنحة لم تعد أجنحةً تطير
بل مجرّد مراوح لضرب الهواء
أصغر وأجفُّ من العزيمة
لُقنّا أن نأبه ولا نأبه
لُقنّا أن نجلس بسكينة”
هكذا خاطب إليوت الإنسانَ الذي أنهكته الحروب والفقر في لحظة اغتراب من عمر البشرية.
هذه اللحظة سبق وأن عاشها ويعيشها الإنسان بتناقضاتها؛ بين أن لا يملك أجنحة، فيبقى أسير لحظته ومكانه، وبين أن يتملّكه الأمل ولا يستطيع أن يرتقي بإنسانيته وحلمه، ويحققهما.
وكم من اللحظات امتدّت سبعاً عجافاً، فرضت بجناحيها الأسودين رضوخاً واضطهاداً بين النزوح والوطن الخيمة، بين الهجرة والوطن الغربة، بين الذات والآخر الغربة، بين الحرية وقيود سلطة الموروث والعسكر. حينها يبتعد الإنسان عن ذاته التي يريد ولم تتحقق، يتركها مرميّة كثوب العيد، كلّما نظر إليه ابتسم وأصابته الحماسة، فيستيقظ الطفل داخله يناديه هيّا.. ثمّ يصفعه.. لا لأنه يكرهه بل لأنه لم يعد قادراً على ارتداء بسمته واستعادة حرية الأطفال.
كل شيءٍ يحضر الآن، ذكريات أيام الحرب والنزوح، ذكريات مَن كانوا هنا ورحلوا، تحضر السياسة والاقتصاد، التطرّف والانفتاح، الصالح العام والأنانية، قضايا المجتمع العالقة.
في هذه التناقضات تُراكمُ الغربة غبارها في أنحاء أرواحنا، مثل غرفة هجرها عاشقان، مثل وطنٍ هجره أهله، ومثل بيتٍ هجرته ضحكات الأطفال… هي لحظة قد يأتي طفل يعبث برسم وجه في الغبار، وقد تأتي عاشقةٌ لتستعيد وردتها، هي لحظة أشبه من استيقاظ الغريق، ليست قدراً؛ فلولاها لما كان هناك مَن حَلمَ ومَن غنّى في تاريخ الليل الطويل من شقاء البشرية.
ولتكن عبثاً، فحسبُ حبّات المطر السقوط، ولتكن خربشات لعاشق فقد المرونة وأساليب العشق. هذه لحظة أخرى بين اللامبالاة والسخرية، بين أن نكون أو لا نكون كما شاء المطر. هذا السؤال الذي يشرح أحوالنا اليوم، هل فشلنا في تجاوز تلك التناقضات؟ وهل هي تناقضات حقّاً؟ وهل حالة اللامبالاة هي التعبير الرمزي عن الرضوخ والاستسلام؟
لا أحد يرسم الطريق في أرضٍ تختنق بالأوحال، لا أحد يشقّ البحر بعصاه، ولا أحد تملك روحه براقاً يجتاز بها السماوات والحدود، ويفكّ كل القيود، حتّى التي تركت آثارها في أرواحنا.
لربما هي لحظة رقصة زوربا، مهما كان من انهيار لحلم، أو انهيار مكان امتدّت به أجسادنا لتكونه.
هل بتنا في لحظة اللامبالاة والبلادة نبحث عن وطن يشبه أحلامنا؟ أم اكتشفنا أنّ للوطن مفاهيم لم نكن لنعيها؟ أم أنّ الحرب تغيّر مفاهيم الإنسان عن ذاته وعن الآخر وعن الانتماء. رقصة زوربا تعيد إلينا الروح والحلم، خدش نحس من خلاله بجسدٍ كان مشلولاً، فقط لأنه أراد الرقص كما تشاء روح تسكنه.
هو انتماؤنا هذه اللحظة، الحلم انتماؤنا، المكان الذي تراكم به الغبار وركام البيوت المنهدمة انتماؤنا، المكان الذي سيزهر بالضحكات بعد صيف حين يعود سكانه المهجرين، وكم مرّة بكينا فيه.. هو هو انتماؤنا…
إذاً لا ضير من أن نضحك ونسخر.. هذه هي حالنا، هذه هي لحظة إنساننا المهدور المقهور، السخرية حال مَن لا يملك جناحاً ليطير، ليس عجزاً أو هروباً، لكنْ تعبيرٌ رمزيٌّ عن الرفض، نفي لحالة التهميش واللاكينونة، انتقامٌ لعجزنا أمام الغبار في أرواحنا، لطالما خلقنا الله على صورته، لطالما استخلفنا على جمال الدنيا، فيحقّ لأرواحنا الحرية، يحقّ لها أن تسمو فوق الحدود. والأهم أن تعود للإنسان مكانته ومركزيته في الكون، وتعود لأياديه طهر هذا المكان الذي بناه وجعله انتماءً له.
في السخرية يتخلّص المُستعبَد من تناهيه، من صغره أمام الجبّار/المستعبِد، يجعله مساوياً له في الوجود يحطّ من قدر ابتعاده عنه، يقصّر المسافة بينهما، سنون طويلة، وغبار كثيف جعلا المستَبدّ يصل لمرتبة الجبّار، لكن النكتة والسخرية والكلمة والضحكة تخربش وتهدم كل هالةٍ صنعها المستَبدّ لنفسه، يضحك لها الكبير والصغير، يضحك لها المكان، حتى الأشجار تتمايل همساً من دغدغة العصافير التي لا تقوى على الطيران، حتى السؤال البسيط لطفل يحرّك روائح الملل والتلقين في الصفوف.
هذه اللحظة المتناقضة بين اللامبالاة والسخرية، تجعل كل ما تركناه من جمال للغبار يتحرّك، يهزّ رأسه، يعلن عن نفسه، أنا هنا، أحتاج فقط لأن أطير.. لحظة القهر والاستلاب تجعل الإنسان بليداً لامبالياً، مستسلماً لتراكم الغبار فوق خيالاته، الاستلاب خدر وبلادة، الاستلاب لقوّة خفيّة قد تأتي، الاستلاب لقيمٍ يعتاش عليها المقهور حتى يضمن سلامته، الاستلاب لقيمٍ تحدّد مكانة الشخص منذ أن يرى النور، الاستلاب لمقولات تريدنا كالدمى في مسرح الأوصياء وقوى الأمر الواقع وسلاح الميليشيات متعددة الأصناف والأجناس، الاستلاب لمُثلٍ تجعل الإنسان صالحاً في قطيعٍ مطيعٍ، وتجعل الإنسان عبداً لشهواته وأنانيّته وتجارة المخدرات لأولى الأمر والنهي، الاستلاب لسلطات القهر والاستبداد السياسي، لذكورةٍ ما تزال تنفي إنسانيتنا، وتنفي عن الأنثى كينونتها.
لم نحلم ببيتٍ يضم العائلة السورية لتكون الخيمة والهجرة مصيراً! ولم نحلم بأبسط الحقوق لتكون الطوابير غايتنا، لم نحلم بالاحترام لنعود لحوار القبائل بالسيف والجاه، ولم نحلم بأن يكون أطفالنا أحراراً في مخيلاتهم وبراءتهم لتزداد القيود ويزداد الأوصياء.
والسؤال لا ينتهي.. طالما بدأت الكلمات، هذا هو الحد الفاصل بين اللامبالاة والسخرية بكل أشكالها.. ليست هدفاً بذاتها، فما كان سؤال الإنسان يوماً عن معنى وجوده هذراً.
السخرية، النكتة، التهكّم، الضحكة، الخربشة، تعيد للسؤال دهشته، حتى لا يكون موجعاً، كفانا استلابات وغربة، وحسبنا من السخرية كلّ ما فصّلناه، لنخرج من حالة اللامعنى التي وصلنا إليها حيث لا جدوى.. وحسبي أقول إنّ السخرية بأنواعها في حالنا اليوم ليست برنامج عمل، لكنها حالةٌ عامة ودليل صحيّ على أنّنا انتقلنا بل أنّنا نتململ في حالة اللامبالاة ونتساءل.
وكلّ ما نحتاجه فقط أن نعيد لأجنحتنا قدرتها على التحليق وهذا هو نفي النفي والفعل الإنساني.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج