مجلة طلعنا عالحرية

سوريا 2022.. المنزل ذو المدخل الواطئ

يوسف صادق

في قصة “المنزل ذو المدخل الواطئ” لإبراهيم صموئيل، يطرح صموئيل تلك العلائقية مع المكان وامتداداتها في الاجتماع والنفس، المكان كينونة تفصح عن نفسها، عن وجودها الذي نحياه.
لسان حال الشباب والسوريّين يقول: هذا ما جناه أبي عليّ!.. كلما حاولنا أن نتعايش مع هذا المكان، يصطدم الرأس بمدخله الواطئ كلما دخلنا أو خرجنا، ليكون الوجع حافزاً لسؤالين: كيف ندخل إلى سوريا الجديدة؟ وهل نستطيع إخراجها من أنفسنا؟ ما الذي جعل المكان الذي ارتأيناه للعيش المشترك مدخله واطئاً؟ حتى بات المكان مصدر الألم، كلما أردنا الامتداد فيه؛ في بيتنا سوريا.
كان البيت سوريا مكاناً للتعايش، دون اصطدام الرأس بما يحمله من دلالات أيديولوجية.
لكن الاصطدام بدأ مع النظام البعثي الأمني، حيث نصّب نفسه وصيّاً على الدولة والشعب، ليتصادم ساكنوا البيت حينما كرّس الطاغية فيهم كل أشكال التفرقة والتقوقع الإثني والطائفي، وبات الولاء لصاحب المنزل هو الولاء للبيت المسبيّ سوريا!
السؤال الآن كيف نعيد لبيتنا سوريا ذاك التعايش السلمي الحضاريّ، في بيئة مدنيّة تصون حقوق جميع مَن في البيت؟ ومن يفرض شروط هذا التعايش؟ هل هو الشعب المالك الحقيقي لهذا البيت، فيوسّع مدخله الواطئ.. أم هم مستثمرو الحرب في غرفه -بعدما لوّنوها بأعلامهم ومصالحهم- هم من يفرض شروط هذا التعايش؟
والأهمّ هو كيف نمحو آثار الخيبة والهزيمة والآلام لهذا المدخل الواطئ، بعد كل ذلك الدمار النفسيّ والمجتمعيّ، عدا عن دمار بنى الدولة الاقتصادية. يجيب البعض بإعادة الإعمار وعودة المهجّرين واستعادة الحقوق.. لكن من يفرض هذه الشروط، بعدما خرج شأن البيت من يد أصحابه؟ ومن “يتلو معاهدة الصلح” على حد قول درويش؟
كان الطوفان أعلى من ذاكرة الشباب.. سمعوا أو قرؤوا عن حربٍ ما، ولم يكونوا قد عرفوا من الغربة سوى بُعدها المكاني، وقد ظنّوا أنّ نوحاً عاد، وحينما امتدّ الموج بما يحمله من صراع، صارت البلاد جزراً..
أدرك الشباب أنّ ما سمعوه عن الثوب القشيب من المحيط إلى الخليج، والمطرّز حسب ما ادّعى سياسيّونا وكتبنا بجواهر التاريخ المجيد، وما لُقّنوا عنه حتى التخمة، لم يكن سوى جسداً ومكاناً أتعبته حكايات عنترة في مناهجهم الدراسية.
كلما أبحروا اصطدم الرأس بالمدخل الواطئ، وتغيّر مجرى الرياح وما تحمله من مصالح شتّى. نكّسوا أعلاماً ورفعوا أخرى، وابتعدوا عن شواطئ أرادوا أو حلموا بها يوماً، كلما فكروا بنوحٍ كانت الخشية من اصطدام الرأس بالمدخل الواطئ.
هنا أدركوا أنّ للغربة أبعاداً أخرى، فالمكان بات كينونةً عرجاء، وسوريا باتت لا بداية لها ولا نهاية؛ فالضياع يملأ الكينونة.
البعض استطاعوا الوصول بقواربهم إلى جزرٍ أخرى، فأدركوا تشابههم مع الآخر واختلافهم معه، رافعين الورود والماء راياتٍ، مدركين أنّ الغربة الجديدة تعدل بينهم، فارتضوا بعقل شقيّ بالصورة الشوهاء داخلهم وخارجهم. وتصالحوا معها مع المكان بوصفه ذواتهم بما ورثوا وبما كسبوا وبما هم قادرون على فعله، و(داريّا) شاهدة على ذلك.
لكن البعض غادر حلمه أو غادره الحلم في لجّة الأمواج والرياح، لم يكملوا دراستهم، ولم يبحروا. منهم مَن ارتضى بجزيرة تأويه، ورفع رايتها وهو يتحسّس رأسه من الاصطدام بالمدخل الواطئ، ووجدوا مبررات طالما لُقّنوا بها؛ فالسير بجانب الحائط أسلم! فارتفعت الجدران بينهم وبين الآخر، وبين أنفسهم، ليملؤوا ذواتهم بالطحالب، مردّدين أهازيج الأيديولوجيات العفنة، محاولين إثبات أنّ جزرهم هي عوالمهم، وما زالوا يرفضون سماع نداءات المياه، اعتادوا أن يحنوا رؤوسهم دائماً. فهم أُسراء المدخل الواطئ.
أمّا مَن سارت قواربهم بدون هدىً، فتقاذفتهم الأمواج والرياح حسب ما تحمله من توجّهات ومصالح، فوجدوا بالعبور كينونةً مهما كلّف الأمر، فجذّفوا حتى بأياديهم، وارتضوا أيّ رايةٍ ترفعها مراكبهم، إلى أن اكتشفوا أنهم كانوا وما زالوا ينقلون مسافرين بلا أسماء، تجمعهم صفات “شايلوك” وإن اختلفت أزياؤهم بين العسكرية أو الدينية أو الحزبية أو الفئوية، حينها أدركوا غربة أخرى، أدركوا ضياع الإنسان فيهم، أدركوا أنهم باتوا مجرّد أشياء أو أدوات، في امتداد المكان فينا بكلّ تشوّهاته، أدركوا أنّ الغربة مُركّبة لا تنفصل بين السياسية والاجتماعية والنفسية إلّا جدليّاً، فالمكان مصاب بفصام الأزمنة منذ أيام عنترة، وحتى أيام صراع الديكة كما قال نزار.
منهم من حملوا المكان ولحقوا بجبران ورفاقه، فكانوا وما زالوا كثرٌ حاملين آلام اصطدام الرأس بالمدخل الواطئ، مثل كيٍّ أو وشمٍ لا يُمحى من الذاكرة والوجدان، حملوا حلمهم ووطنهم في حقيبة، وافترشوا بها جدران غربتهم الجديدة. حالمين بوطنٍ قد يتحقّق، قد يشبه ما خرجوا منه، لن يستطيعوا إخراج سوريا من أنفسهم.. لكن أيُّ سوريا يريدون؟
وهنا غربة أخرى؛ بين الذات وتحقّقها في مكانٍ آخر قد لا يشبهها، وقد يشبهها بصوت النوارس المشترك في كل الشواطئ، فينسون كل شيءٍ من الكينونة الأولى إلّا آلامها وآثار الحرائق التي سبّبتها.
أمّا مَن جاهد ويجاهد للعودة إلى الشاطئ، فما زال يصارع بمجاديف يحاولون التعرّف عليها، يحاولون أن تكون امتداداً لأياديهم، لا تتحكم بها سلطة الأمواج والرياح.. وكم للأيديولوجية من سلطات! ما زلنا نحاول وعيها، بعضها يعود لسلطة الغزو في الصحراء، وآخرها يعود لسلطة الغزو في الفضاء، والأزرق يعمي العيون وينذر بالضياع، بل ينذر بالوهم، وإعادة تدوير سلطات الاستبداد فينا وفيما نفرش به كل مكان. فنكون أسراء الوهم الجديد.
طوبى لمَن ما زال يرى ما خلف الأكمة، ويميّز نداء البحار للمجهول من نداء السراب، ووعى أنّ غربته هي وجهٌ آخر لهويّته، وتحقيقاً لفردانيّته.
لتبقى الأسئلة مفتوحةً على تجارب الشباب، علّ نوحاً يُولد في كلّ مركب..
طوبى للشباب.. طوبى لبيتنا: سوريا.

Exit mobile version