جاءت الانتفاضة الأخيرة لتعرفني أكثر على لبنان واللبنانيين، ومثل كل انتفاضات الربيع العربي التي نكتشف فيها أننا لا نعرف إلا القليل عن شعوبنا ومعاناتها وثقافاتها، بدأت مرغماً بإعادة النظر بمسبقاتي؛ وصرت أستلطفهم أكثر فأكثر، كسرت بسرعة حواجزي النفسية تجاه لكناتهم الأجنبية، وأحببت مسبّاتهم الفجّة لزعماء الطوائف، وما عدت أرى مبالغة تذكر في قصر لباسهم، والأهم: زالت بالتدريج تلك اللطخة الطاغية التي احتلتها كراهية السوريين في المشهد اللبناني العام لنرى جماهيراً طيبة وعفوية ومحبة تعيد الأمل بإنسانية الإنسان.
لأعترف بداية أنني كنت لا أحب اللبنانيين! هكذا بخفة وبحكم قيمة تعميمي يشابه غالبية أحكامنا، مثل كثيرين غيري كنا ننفر من زيفهم واستلابهم الفاقع للغرب، عنصريتهم واستعلائهم وطوائفيتهم واستلاباتهم الطبقية.. كنا نكره كذلك دونيتنا كسوريين أمامهم، فقراء وأغنياء، كتاباً ومثقفين ونخباً فنية، لم تستهوِني يوماً غزليات المثقفين السوريين لا بسمير قصير ولا بعائلة تويني ولا بغيرهم، ورغم أنني أعترف بأنني لا أعرف الرجل الشهيد (قصير) ولا قرأت له، إلا أن استلابات النخب السورية ومثقفي العلاقات العامة، ببغائيتهم ودونيتهم الطفلية أمام اللبنانيين قد وقفت حائلاً بيني وبين فكر الرجل، وبين عديدين من مثقفي وكتاب لبنان.
القضية الآن انتقلت إلى مستوى آخر، اللبنانيون اليوم ينالون الدعم والحب الذي يستحقون من الجميع، إلا أن الحلم بالتغيير وبدولة مدنية حديثة يبقى على كفّ عفريت، والعفريت الذي يتربص بالمشهد العام قد يقلب الطاولة على الجميع في لحظة الحقيقة، وتلك اللحظة تقررها للأسف معادلات دولية قذرة كانت قد أودت بالسوريين من قبل. ومحور الممانعة من طهران إلى الشام إلى ذئب الضاحية جاهز للانقضاض على أحلام الناس، وجاهز لتقطيع أوصالها عند إعطائه الضوء الأخضر لذلك. أما الضوء الأخضر فهو رهن اتفاقات وتوافقات دولية من واشنطن مروراً بتل أبيب إلى موسكو.
وكما شهدنا نحن السوريين ذلك التكالب اللاأخلاقي على ثورتنا المغدورة، فإن اليد تبقى على القلب في أن تشهد الثورة اللبنانية ذات التكالب وذات الخيانات.
لا تقاس الأمور بتأييد الثورات في لحظات ألَقِها وقوتها. إنما تقاس بالقدرة على الوقوف إلى جانبها عند الألم والتشرذم والمعاناة والضعف، عندما تفرقها القذيفة والرصاصة. ولقد اكتشفنا سابقاً أن أخلاقياتنا نحن العربان مثل أخلاقيات العالم المعاصر؛ تحب القوي وتكره الضعيف، وأنها من الممكن أن تنقلب على اللبنانيين في اللحظة التي تدوسهم بها أبواط العسكر أو يمزق أجسادهم الرصاص الحي، أو تهدم بيوتهم فوق رؤوسهم بالبراميل المتفجرة.
ومهما بدا كلامنا متشائماً إلا أن هذه الهيبة التي نستشعرها الآن أمام مشهد الجمهور اللبناني الثائر.. كل هذا الجمال والوقار والحرية وهذه السلطة الجماهيرية الواثقة.. تستطيع عصابة مسلحة منفلتة من عقال العقل والعاطفة كالعصابات الأسدية والإيرانية وحزب الله أن تمرغها بالتراب.. أن تحولها لفلول ومجموعات هاربة.. وأن تسمح لـ “مثقفين” قليلي الوجدان والضمير بالتشدق في لا شرعيتها!..
أكثر ما يشغل البال في وضعنا هذا هو الفارق بين الحالتين في سوريا ولبنان، والسؤال الملح حول جدوى الثورات وإمكانات انتصارها المناقضة للإرادات الدولية والتي لا تريد لنا الخير ولا الديموقراطية. هل سيكون هناك فارق في النتيجة بين فعل وآخر؟ هل السلمية أجدى فعلاً من السلاح؟ هل المظهر الحداثي المتمدن أجدى من المظهر الماضوي المفوّت الذي طغى في سوريا؟ هل سيشكل حضور المرأة ومظهرها المتحرر فارقاً يذكر في مواقف العالم والدول؟ هل سيكون من الصعب أسلمة الثورة أو تطييفها؟ وهل سيكون هناك فارق في المآلات بين طرق أو خيارات متعددة ومختلفة؟ هل ستعري التجربة اللبنانية أخطاء المعارضة السورية أكثر مما تعرت سابقاً.. هل ستثبت أنه كان بالإمكان أكثر مما كان؟
السؤال يعيد إلى الأذهان مرحلة يبدو أن البشرية طوتها إلى حين؛ تلك المرحلة القصيرة التي بدا فيها أن العالم يتوحد ويتشابه ويتقارب، مرحلة أوهام العولمة وأحلامها.. كذلك المخاوف منها وارتيابها، العولمة ذلك المفهوم الذي يبدو أنه بات خارج التداول اليوم بعد أن كان سؤال الساعة والدقيقة. وبعد أن كان الرهاب والهاجس لدى طيف واسع من المثقفين العرب هو خطر الذوبان في العولمة، يبدو أن العكس هو الذي حدث؛ فلقد بات واضحاً اليوم أن المراكز العالمية الإمبريالية لا تريد إلا لفظنا من العولمة، يبدو أنها تريد حصر العولمة بالاقتصاد ومنعها قسرياً عن السياسة والثقافة، وكما نوه الراحل جورج طرابيشي بات من الجلي اليوم أن الدول الكبرى ضداً على ثقافة العولمة تتمترس وراء عصبياتها القومية من أمريكا إلى أوروبا وانجلترا إلى روسيا والصين واليابان وباقي القوى العالمية الصاعدة. وبالطبع لا نستثني القوى الإقليمية الوازنة تركيا وإيران وإسرائيل.
هذا التمترس وراء عصبيات ما قبل العولمة هو الذي صاغ مواقف الدول من ثورة السوريين الذين بنوا آمالهم على “الأخلاق” العالمية، لم يكن يتصور حتى أشد السوريين تشاؤماً آنذاك أن يسمح العالم بارتكاب المجازر وتهديم المدن وقتل مئات الألوف وتهجير الملايين وموت المئات في البحار، بل وحتى استخدام الأسلحة الكيماوية أمام أنظار العالم الذي بات قرية صغيرة، في عالم الصوت والصورة والبث الحي والمباشر .
ولئن كان طرحنا هذا يبدو عدمياً ويغيب عنه تقدير الفروقات في الفعل والإرادة ونتائجهما، إلا إنه لمن المرجح ألاّ تكون هناك تأثيرات تذكر لتلك الفروقات بين الثورتين السورية واللبنانية (هذا في حال استمرار الأخيرة وتصاعدها)، فقدرية إرادات الدول الكبرى والقوى الإقليمية تبدو عاملاً حاسماً في تقرير مصائرنا. كما أن تعقيدات الحالة اللبنانية والمحاصصة الطائفية مرشحة، فيما لو استمرت التظاهرات وتصاعدت، لاجتذاب تدخل دولي واسع النطاق على غرار سوريا وربما أكثر، أقله قد تبدأ الأمور بافتعال حرب بين إسرائيل و “المقاومة” تبيح لهم كل شيء وتبعثر حراك الشارع تحت غبار الحرب دون أية تغييرات تذكر.
وإذا يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى أن مصائر الشعوب المستباحة والمقموعة مسألة دولية أكثر بكثير من كونها محلية؛ فإن العالم ككل ومراكزه على الأخص بحاجة إلى انعطافة أخلاقية كبرى قد نكون جزءاً منها أو وقوداً لها، إلا أنها برسم العالم المتقدم حصراً والذي يبدو أنه “قدرياً” أيضاً لا بد أن يعي عاجلاً لا آجلاً أن خيارات الإنسانية جمعاء على مفترق طرق.. إما التقدم والانفتاح والعولمة أو الهمجية والتعصب والعدمية.
كاتب سوري من الجولان المحتل