بوجوههم المتعبة، وملابسهم المهترئة، وحقائب شبه خاوية وُضّبت على عجل، احتوت قليلاً من الحوائج الشخصية وكثيراً من القهر والحزن والانكسار، هُجّر سكان مدينة حلب الشرقية!
ذاك النزوح الأخير وصفه سكانها “بيوم القيامة”، إذ لم يكن يتوقعه قاطنو تلك المناطق المحاصرة، وتمنوا لو أنه مجرد كابوس شتوي سيمر عليهم؛ دون أن ينخر البرد عظامهم في الواقع ويجبرهم على المبيت في العراء لأيام ثم تبدأ رحلة النزوح والهروب إلى المجهول.
بعضهم تمكنوا من الفرار إما سيراً على الأقدام قاصدين حي “الشيخ مقصود” المجاور ذي الأغلبية الكردية، أو نحو المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام غرب المدينة، أو عبروا إلى الريف الشمالي باتجاه بلدتي إعزاز ومارع.
خالية من سكانها
ومن تبقى من سكان حلب الشرقية، بقوا عالقين ثلاثة أيام بين 16 كانون الأول/ديسمبر و19 من الشهر نفسه، انتظروا دورهم إلى أن تمّ إجلاؤهم نحو مناطق ريف حلب الغربيّ، ومنها إلى مدينة إدلب وريفها (غرب سوريا)، وفق اتفاق رعتهُ تركيا وروسيا أُجلي بموجبه الآلاف من المدنيّين والمقاتلين بمن فيهم نساء وأطفال وجرحى.
وباتت أحياء “مساكن هنانو”، و”الحيدرية”، و”الإنذارات”، و”بعيدين”، و”الصاخور”، و”الشعار”، و”القاطرجي”، و”جبل بدرو” و”بستان الباشا” وغيرها من أحياء حلب الشرقية خالية من أصحابها.
ونشر نشطاء وإعلاميّون معارضون على صفحاتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعيّ صوراً ومقاطع فيديو تعكس مظاهر الدمار التي حلّت بأحياء المدينة، حيث يمكن رؤية العديد من المنازل التي أصبحت أثراً بعد عين، ولم يتبقّ منها سوى الأطلال، جرّاء الاشتباكات العسكرية المحتدمة مع تقدم النظام والميلشيات الموالية له في شرق حلب منذ 20 شهر تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2016، وأعلن السيطرة عليها بالكامل في 22 من شهر كانون الأول/ديسمبر.
ولدى لقائه مع مجلة طلعنا عالحرية يروي صلاح الأشقر، وهو صحافيّ بقي محاصراً بالقسم الشرقيّ لمدينة حلب، أنه: “في ربيع عام 2011 وعندما شاركت بالمظاهرات المناهضة للنظام الحاكم طالبنا بإسقاط سورية الأسد، حلمنا بسوريا حرة ديمقراطيّة”، أمّا اليوم وبعد مرور ستّة أعوام على هذا الكلام، يضيف صلاح: “أنا ابن حلب، ومن سوريا، أجبروني على مغادرة منزلي ووطني”.
“التغريبة الحلبية”
توقّف صلاح عن الكلام وغصّ حلقه وفؤاده بكثير من الكلام. بعد لحظات، تابع حديثه وقال: “غادرت مدينتي مجبراً، وكلّ هؤلاء الناس مثلي هجروها مكرهين، إنّها التغريبة الحلبية”.
ووصل صلاح في 19 شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، إلى بلدة الأبزيمو في ريف حلب الغربي، وكان من بين الذين تم إجلاؤهم، ثم دخل تركيا في 25 من الشهر نفسه قاصداً مدينة غازي عنتاب ليكمل نقل ما عاناه أهل حلب في مواجهة الحرب والحصار للعالم كله.
وقدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عدد الذين تم إجلاؤهم من القسم الشرقي لمدينة حلب بنحو 35 ألف شخص، كان من بين من شملهم 100 جريح ومريض في حالة حرجة.
وذكرت آنجي صدقي المتحدثة الرسمية للجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا، في حديثها مع مجلة طلعنا عالحرية تفاصيل عملية الإجلاء وقالت: “منذ يوم الخميس 15 ديسمبر حتى فجر الجمعة 16 ديسمبر، قامت فرق الهلال الأحمر العربي السوري واللجنة الدولية للصليب الأحمر بإجلاء حوالي 10000 من المدنيين من ضمنهم حوالي 100 جريح كانوا في حالة حرجة”.
وفي يوم الجمعة 16 كانون الأول/ديسمبر العام الماضي، توقفت عملية الإجلاء بعد حدوث توترات على الأرض وتبادل إطلاق نار، ثم استؤنفت بعد يومين وانتهت يوم الجمعة 22 كانون الأول/ديسمبر حيث تم إجلاء نحو 35 ألف شخص، بحسب آنجي صدقي، ولفتت: “تم إجلاء المدنيين الذين رغبوا في المغادرة إلى أماكن أكثر أماناً”.
تركوا لمصيرهم
وتابعت صدقي كلامها لتقول: “أما الذين رفضوا المغادرة كان لديهم خيار البقاء، وهذا من مبادئ القانون الدولي الإنساني، يجب أن يتم الإجلاء وفقاً لرغبة المدنيين والجرحى أنفسهم”.
وتم تهجير آلاف الأشخاص عن طريق حافلات “خضراء حكومية” من الأحياء الشرقية في حلب، إلى مخيمات مؤقتة في ريف حلب الغربي أو مدينة إدلب وريفها، حيث أجبروا على ترك كل شيء خلفهم عند فرارهم، وتركوا لمصيرهم المجهول في مواجهة طقس شتوي شديد البرودة.
ولم يسلم الذين نزحوا من قسوة الشتاء؛ إذ فتكت العاصفة الثلجية الأخيرة التي ضربت سوريا بكثير من الخيم الرقيقة وغير المجهزة، بعد أن غطت الثلوج مساحات واسعة من تلك المخيمات التي تفتقر بالأصل لوسائل التدفئة. وما زاد الأمر سوءاً أخبار موت عدد من الأطفال وأمهاتهم نتيجة انخفاض درجات الحرارة أو استعمال وسائل تدفئة بدائية بطريقة خاطئة.
صحفي سوري، عمل مراسلاً لعدة وكالات دولية وكتب في صحف عربية وغربية ومواقع سورية.