Site icon مجلة طلعنا عالحرية

سجن بعشرين مليون سجان

لعلّه شوكة في القلب.. توجعنا ونعبدها. هذا التراب، الإنسان، الوجع، الممزق، الظالم، الجاحد الذي لقنتنا الحياة بكذبها المفحّم اسمه: الوطن. هو العبء الثقيل على كتف الغربة، فلولاه، ولولا أوهامنا عنه، لما شكى مسافرٌ غربةً، ولما أوجع حنين مشتاقًا..

في الغربة – وهي الوجه الآخر لكذبة الوطن – يلاحقك شبح الجوع والدم والقهر لتغصّ بكل لقمة، لتخجل من عافيتك، لتهرب من ضحكاتك، ولا تجرؤ حتى في أحلامك على استعادة شيء مما فعله الوطن لك: فيه قُتل أهلك، واعتُقل رفاقك، وخابت أحلامك، وسُحق طموحك، وضاع عشقك، وحتى بعد أن خرجت منه ظلّت وثيقة سفرك وملامحك الممهورة بختمه: لعنةً تلاحقك حتى في الخيام..

كيف استطاعت أمهاتنا إقناعنا بأنّ هذا الوطن ولا وطن لنا سواه؟ كيف تراكمت الأوهام في خيباتنا لتنتزع منّا كل غالٍ كرمى لحفنة من التراب، مهما كان كِبَرُها؟ كيف صدقنا، ثمّ آمنّا، بأننا ننتمي لبقعة ما، لشعبٍ ما، بغضّ النظر عن احتمال أننا لا نريد هذا! أننا لا نشبههم!

في بلاد تحمل كل ما تريده من الوطن إلا اسمه، تتفتح أمامك طرق لم تكن تخطر ببالك للنجاح والإنجاز، لتحقيق الذات، وللعيش بكرامة، بل ودون هموم إلى حدٍّ ما، ويبقى ذلك الثِقل الحديدي يشدّك إلى قاع القلق:

“أنا سوريّ/ أنا من يعتبر العالم أهلي أرقامًا قابلة للتدوير إلى أقرب رقم صحيح/ أنا من يراني العالم مشروع ارهابي، أو متطرّف، أو عدواني/ أنا من يجوع أهله حتى الموت”

يشدّني ثقل الإنتماء إلى الغرق، وأقسى ما في غرقي أنيّ لا أحاول السباحة حتى، متشبّثٌ بكل ما لدي من قوة بهذا الإنتماء، أنا ضحية أمي التي علمتني أنّ هذا التراب هو المدى والمنتهى واللحظة والأزل. أنا ضحية أغنيات الضيعة، واللون الأسمر على وجنات امرأة ما زلت أنتظر قدومها يومًا. أنا ضحية ماء دمشق العذب البارد طوال الصيف. أريد التحرر من كل هذه القيود التي تغتال الفرح في ضحكاتي. أريد الهرب من ملامحي التي أراها تُقتل في كلّ نشرة أخبار. هناك ألف حياة أخرى على هذه الأرض، أراها، وهي في متناولي، ولكن لوثة الوطن ترتفع عاليًا بيني وبينها كجدار فصل عنصري..

منذُ عرفتُ الأوطان الحقيقيّة لم يبقَ الوطن في ذهني: مرتع الطفولة وهدوء الروح، لم يعد ذاك السهل الأخضرَ المفتوحَ للأغنيات، أغنيات عن عشاق لم أرهم يومًا، وطني: أغنية عشاق في بلاد تقتل العشق، ورغم معرفتي بكل هذا: فأنا لا أدندن سواها.

لا أعرف إن كنتُ سأشفى يومًا، بل إني لا أعرفُ إن كنتُ أملك إرادة الشفاء أصلاً، ما أعرفه هو أني حبيس تلك الأرض، ولي فيها عشرون مليون سجان، هم أهلي الذين جار عليهم الزمان حتى كاد يفنيهم، وهم يحاولون التشبث بأطراف الحياة. إنه الوطن القاسي، اللئيم، البخيل، إنه الأغلى أيضًا.  هكذا، بكل بلاهةٍ، إنه: رصاصةٌ في القلب.. توجعنا ونعبدها!.

Exit mobile version