Site icon مجلة طلعنا عالحرية

“سايبر سيتي” مدينة ألعاب أم فيلم سينمائيّ / رامي العاشق

يظن القارئ لكلمة سايبر سيتي –للوهلة الأولى- أننا نتحدّث عن مدينة ألعاب، أو مدينة صناعية، عن فيلم سينمائي ربّما، ولا يمكن له أن يتوقّع أنّنا نتحدّث عن سجن يسمّونه هنا “مخيّم”!

يقع “سايبر سيتي” في مدينة الرمثا الأردنيّة الحدوديّة مع سوريا، ويسكن فيه “قسرًا” لاجئون فلسطينيون قادمون من سوريا هربًا من آلة الموت، قرابة 500 فلسطينيّ محتجز في بناء بستّة طوابق تضم مائة وعشرين غرفة، كلّ غرفة تسكن فيها عائلة، في ظروف إنسانيّة مأساويّة أشدّها قسوةً: أنّ المحتجزين ممنوعون من الخروج من هذا المكان لأبعد من 30 متر ضمن حدود وأسلاك شائكة ودوريّات أمنية وحراسة مشدّدة.

منذ عامين ونصف تحتجز السلطات الأردنية هؤلاء الفلسطينيين بدون أي تهمة، فقط لأنهم فلسطينيّون لا أكثر، ومهما بحثنا عن مبرّرات لن نجد ما يمكن للعقل البشريّ أن يقتنع به! اعتقال تعسّفي بسبب جنسيّةٍ حتى ولو كانت تهمةً فلم يخترها أصحابها ولم يقترفوا ذنب الانتماء لها! نعم ليس فيلمًا سينمائيًّا ولا قصّة قديمةً عن السّود والبيض، سايبر سيتي جحيمٌ قاتِلٍ يسلبُ إنسانيّة من فيه!

على بعد 500 متر من المفاعل النووي كان يلعب (حيدر) ابن الخمس سنوات في بهو “المخيّم” مرّ بقربه أحد الرجال فصار يغنّي له أغنيّة ابتكرها من واقعه تقول: «بعرض أختك شِلِن» أي أعطِني خمسة قروش، وهذا لا يمكن اعتباره إلا تشويها -ممنهجًا ربّما- للطفولة في سلبها حقوقَها البسيطة، وامتهانًا لكرامة الآباء الممنوعين من العمل، والجالسين هكذا ينتظرون قرارًا ما يقضي بخروجهم ومعاملتهم كالبشر الطبيعيين!

لو كتبت على “غوغل” عبارة سايبر سيتي، ربّما ستعرف شيئًا ما عن هذا السجن، لكنّك لن تعرف عن (رأفت) 20 عامًا، فلسطينيّ سوريّ حاول الانتحار من سطح المبنى، لأن السلطات قررت تسفير والده الستّيني إلى سوريا الذي هرب من سايبر سيتي ودخل إلى المدينة حيث تم إلقاء القبض عليه، محاولاتُ انتحار كثيرة كانت، ومحاولات هروب كثيرة نجح بعضها وفشل بعضها وأعيد بعض الذين هربوا وتم القبض عليهم إلى سوريا قسرًا، هل تصدّق أن كل هذا فقط لأنهم فلسطينيّون؟ لا أعتقد.

لم يستطع الفلسطيني السوري (أبو عمّار) أن يهرب من حمص إلى لبنان أو تركيا، فأتى جريحًا مصابًا في قدمه واضطر للجوء إلى الأردن لإجراء عملية جراحية في ساقه ووضع صفائح حديديّة، وإلى هنا يمكن اعتبار هذه القصّة عاديّة وطبيعيّة في ظل ظروف الحرب، إلا أن غير الطبيعيّ، أن يُمنع أبو عمّار من الخروج من سايبر سيتي ليفكّ الغرز (القطب) المعدنية من ساقه، فاضطّر أن يفكّها بالكمّاشة (الزراديّة) بنفسه! هل يمكن للعقل البشريّ تخيل هذا المشهد؟

الحياة جميلةٌ في سايبر سيتي، فقد خصّصت وكالة الغوث “الأونروا” (كرفانًا) خاصّا ليصبح مسجدًا، وآخرَ لتوزيع الكوبونات من منظمة الغذاء العالمي، وسمحت السلطات بزيارة المحتجزين بموافقة المتصرف (المحافظ) نعم نجحوا في تحسين ظروف السجن، ولم يقدموا على المحاولة لإغلاقه، جميلٌ أن تقوم “هيومان رايتس ووتش” بتسميّة سايبر سيتي بمنشأة الحجز، هذا كل ما بوسعهم أن يفعلوه، إلا أن الأجمل من هذا كلّه، أن يطلّق رجل امرأته لأنه بدون عمل، عمله فقط هو الشجار معها! والأكثر جمالًا .. أن يمنع فلسطينيو السايبر سيتي من الزواج داخل حدود المخيم وخارجه!

هل الموت أكثر عدالة من هذا؟ منفيون بلا منفى، عالقون على حدود الانتظار بلا غدٍ واضح المعالم، ينتظرون موتًا بطيئًا أو خلاصًا متأخرًا لا يعرف موعده، معتقلون بلا تهمة، هاربون من الموت والاعتقال ومعتقلون برسم القرار السياسي والسيادي، سألتْ مرّة إحدى العاملات بالمفوضيّة أحد الشبّان المحتجزين عن رأيه بالحمامات المشتركة بعد أن تم تحسينها، فأجاب: «مش مهمّ تحطّونا بقفص وتقولولنا هاد مصنوع من الدهب، بيضل إسمو قفص»!

البعض عادوا طوعًا، وهذا القرار الطوعي، قسريّ بشكل أو بآخر، أبو هشام وأبو خالد فلسطينيّان عادا إلى درعا لأنهما لم يستطيعا البقاء هكذا، طلبوا العودة، وتم “قذفهما” إلى سوريا، أبو خالد استشهد في الغوطة الشرقية وظلّت عائلته -التي هرّبها من سايبر سيتي إلى عمّان- مطلوبة للأمن الأردني، وأبو هشام استطاع الوصول إلى تركيا، ثم إلى اليونان، وهو الآن في السويد بعد أن قطع البرّ والبحر ونجا من الموت أكثر من مرّة!

لن تعرف هذه التفاصيل؛ ليس لأنها خياليّة ولا لأنك لا تريد أن تعرف، بل لأن ثمة من لا يريد لك أن تعرف، هل تعرف مثلًا أن سايبر سيتي ليس الأول من نوعه؟ فلسطينيو العراق أيضًا تم وضعهم على الحدود الأردنية العراقية في مخيم الرويشد لمدّة ثلاث سنوات حتى أخذتهم البرازيل بالطائرات دون أن يدخلوا الأردن؟ في سوريا كذلك، مخيّم التنف على الحدود العراقية السورية كان بذات المواصفات غير الإنسانيّة، واللافت في الأمر أن كلّ هذا في بلادٍ تدّعي الدفاع عن الفلسطينيين وقضيّتهم وتحمل رايتهم في شعاراتها وحملاتها الإعلامية!

Exit mobile version