إثر اختطافها قبل ما يقترب من عامين تواتر تعريف سميرة بأنها زوجتي. هذا -ربما- من باب تقديم نقطة علام للتعرف على المرأة التي اختطفت مع ناظم حمادي ورزان زيتونة ووائل حمادة (جرى تعريفه على نحو متواتر أيضا بأنه زوج رزان)، ولم تكن معروفة على نطاق واسع. وبحق اعترضت على هذا التعريف بدور حسن، الناشطة والكاتبة الفلسطينية الفذة، التي كتبت بالانكليزية مقالاً بعد وقت قليل من الخطف، أوردت فيه معلومات وفيرة عن دور سميرة في الكفاح السوري منذ ثمانينات القرن العشرين. وكتبت بنفسي عدداً من النصوص عن سميرة، اشتملت على معلومات عن تاريخها الشخصي، ومساهماتها في العمل العام منذ اعتقالها عام 1987 وإلى ما بعد خروجها من السجن، فأيام “ربيع دمشق” وصولاً إلى الثورة، ثم انضمامها إليّ في دوما في أيار 2013. أودّ أن أصحح معلومة وردت في مقالة بدور، تقول إننا افترقنا لعامين بسبب تواريّ في دمشق بعد بداية الثورة. الواقع أننا كنا معاً معظم الوقت في سنتي التواري؛ فقط في بضع الشهور الأولى التالية للثورة كانت سميرة تعيش أكثر الوقت في بيتنا المستأجر في ضاحية قدسيا، وهذا لأني كنت أقيم وقتها في مكان لا يسمح بعيشنا معاً. بعد ذلك، وطوال أكثر من عام ونصف، كنا معاً أكثر الوقت. افترقنا مرتين، مرة حين ذهبتُ إلى الغوطة الشرقية في 3 نيسان 2013. ودّعتها صباح ذلك اليوم بأمل أن نلتقي قريباً. كانت وجهتي هي الرقة، أما الغوطة فمحطة (ترانزيت) على الطريق إليها. ولم يكن مجيء سميرة إلى الغوطة مخططاً له، لكن حين طال مقامي فيها نسبياً، فضلتْ أن تأتي وتشارك في الحياة المتاحة هناك. كانت صارت لتوها مطلوبة في دمشق، وكان من شأن المجيء إلى الغوطة أن يضعها في مأمن من الملاحقة، وإن ليس في مأمن من القصف ومخاطره. لم يكن في بالنا قط أي مخاطر أخرى في ذلك الوقت.
كنا في شوق إلى بعضنا، كنت مشتاقاً لها وكانت مشتاقة لي، وإن كان يمازج الشوق من جهتي خشية من أن تنفلت الأمور من أيدينا، فلا نستطيع التحكم بها. هذه خشية رافقتني على الدوام، ربما بفعل تجربة السجن. لكن لم أكن أستطيع مقاومة رغبة سميرة في تجريب حياة مغايرة. الانضمام لي في الغوطة لم يكن القصة كلها.
والافتراق الثاني وقع في تموز 2013 حين مضيتُ إلى الرقة، المدينة التي أنحدر منها، في رحلة ما كان ممكنا أن ترافقني سميرة فيها. ودّعتها مساء 10 تموز بأمل التلاقي في وقت قريب. كانت لدينا تقديرات وخطط حول سبل اجتماعنا من جديد. لكني بذهابي ارتكبت خطأ كبيراً، مصيرياً في الواقع. كان ينبغي أن أبقى، فلا نمضي من الغوطة إلا معاً، أو بعد ضمان وضع آمن لها.
لكن ليس هذا ما أريد قوله هنا، وقد سبق أن قلته غير مرة على كل حال، كتابة وكلاماً مسجلاً صوتياً. ما أريد قوله على مشارف عامين من تغييب سميرة هو إنها هي اليوم المحور الأول لبناء هويتي ودوري، وتعريفي لذاتي. عدا أنها لا تغيب عن بالي، وعدا ما في تغييبها مع رزان ووائل وناظم مما يشبه الأسطورة، أسطورة أجد نفسي معنياً بروايتها وتفصيلها وتكرارها، واستيضاح معانيها الشخصية والعامة، عدا ذلك سميرة شخص/ قضية تتقاطع فيها وعندها مسائل الثورة والتغير السياسي في سورية، وقضايا الظلم والعدالة والحرية والاستعباد والكرامة الإنسانية، وقضايا المرأة والسلطة البطريركية والتمييز الجنسي، وقضايا الدين والطائفية والتمييز الطائفي، وقضايا الاعتقال والسجن والتعذيب والخطف والتغييب والفقد والقتل، وقضايا النضال السياسي والثقافة والمسؤولية الاجتماعية للمثقفين، وقضايا الثورة الثقافية والأخلاقية والدينية. ليس هذا تكثيراً اعتباطياً لقضايا يمكن أن ترمز لها سميرة أو ترتبط بها بصور متنوعة. هناك كثير من المنطق في رمزية سميرة: فهي امرأة معارضة للنظام على أسس سياسية وأخلاقية علمانية، وهي علوية المنبت، وهي معتقلة سابقة تعرضت للتعذيب على أيدي الأسديين، وهي مخطوفة اليوم من قبل إسلاميين، وهي مغيبة في الظلام منذ نحو عامين. وهذه العناصر في تكوينها تسوغ أن تكون سميرة، أكثر من أي شخص آخر في سورية بحدود ما أعرف، رمزاً لصراعنا، لأخلاقيته ولجذريته ولمأساويته.
بعض هذه القضايا من اهتماماتي الأقدم، لكن كلها، الجديدة منها والقديمة، تكتسب توجيها مغايراً، وشخصية وكثافة، من ارتباطها بشخص حي، خجول وكريم، محب وعادل، معطاء ومترفع، هو سميرة. سميرة هي في آن معاً هذا الشخص الحي العيني، وهي قضية متعددة الأبعاد وخصبة. ليس في هذا الوجه ما يجرد سميرة من شخصيتها، بل إن شخص سميرة هو ما يضفي كثافة وحياة على هذه القضايا، ويخرجها فيما يخصني من كونها انشغالات عامة يتحمس لها المرء، إلى التزامات حية، شخصية. وأكثر من ذلك، ليست تلك الالتزامات أشياء أقوم بها بشغف أو بأكثر من شغف، بل صارت هويتي: أشياء أريد أن أكون أداة لها أو صوتاً؛ أفكر فيها، أشتغل عليها، أربطها طوال الوقت بسميرة المخطوفة والمغيبة، وأرتبط بها، وأتغير من أجلها. أتغير على نحو خاص. لست منذ الآن الشخص نفسه قبل خطف سميرة وبعده، ولا أريد أن أكون. لا أريد أن أعرف كشخص وكدور عام في انفصال عن امرأتي المخطوفة المغيّبة، وعن جملة الملابسات الخاصة والعامة، السياسية والثقافية، للقضية، وما يتصل منها بإطار صراعنا العام وبالخاطفين، أشخاصاً وعقيدة وسياسة. المسألة فيما يخصني ديْن ودِين. “ديْن معنى” ودين حياة. وهما، الدِّين والديْن، مما لا يستنفد فيه القول، مما لن أكفّ عن الانشغال به إلى حين تكون سميرة هنا. هي وحدها من تنهي القصة.
سميرة هي سياستي، لكن قضية سميرة ليست قضية سياسية وحقوقية فقط. بالنسبة لي هي قضية ثقافية وأخلاقية بالقدر نفسه أو أكثر. أو هي الشخص التي تلتقي عندها أكثر من غيرها الالتزامات السياسية والحقوقية من جهة مع الالتزامات الأخلاقية والثقافية من جهة ثانية. وهي لذلك بالذات سند للجذرية على هذه المستويات كلها. الجذرية التحررية هي ما تكرم سميرة، ومعها رزان ووائل وناظم، وفراس وباولو واسماعيل، وفائق وجهاد، وما لا يحصى غيرهم، وهي ما يمكن أن تكون سنداً لتشكل جديد لمجتمعنا وثقافتنا وسياستنا.
كانت سميرة زوجتي، اليوم هي أيضاً وأساساً محور هويتي. أنا زوج سميرة!
وأنا سميرة في غيابها.
كاتب سياسي ومعتقل يساري سابق، مؤلّف مشتغل بالشؤون السورية ونقد الثقافة والإسلام المعاصِر.