Site icon مجلة طلعنا عالحرية

زواج القاصرات السوريات إحدى ضرائب الحرب

المحامية منى اسعد

خمس سنوات ونيف مضت على انطلاقة “ثورة الكرامة”، خمس سنوات من القتل والدمار، الاعتقال والاختفاء، التهجير والنزوح، حتى بات لكل عائلة سورية وجعها وحسرتها الخاصتين، لكن ربما يكون تقديم الأهل أطفالهم قرابين لحياة أفضل عبر ما يسمى “الزواج”، هو الأخطر والأشدّ أذى.

فتحت وطأة الظروف الاقتصادية والاجتماعية بالغة القسوة، التي تعيشها الأسر السورية النازحة داخل سوريا وخارجها، حيث أودت الحرب بمعيل العائلة ومعظم شبابها ورجالها كما أودت بممتلكاتها أيضاً، باتت الفتيات عبئاً يسعى الأهل للتخلص منه عبر تزويجهن رغم حداثتهن “صغر أعمارهن”، خاصة مع انتشار الخوف من تعرضهنّ للاعتقال أو الاختطاف، سواء من قبل قوات النظام أو من قبل الجماعات المُسلّحة المتطرفة.

وهذا ما اعترف به أحد أئمّة المساجد في مدينة حلب بقوله: “إنّ النساء الأرامل يأتين إليه، ويطلبن منّه البحث عن عريس لبناتهن، بهدف التخفيف من مصاريف المعيشية بعدما خسروا أزواجهن”، مستذكراً قصة سيدة “طلبت من عريس ابنتها أن يأخذها إلى بيته على الفور بعدما خسرت منزلها في حي الأنصاري نتيجة برميل متفجر، ولم يعد لديها مكان تبيت فيه مع أولادها”. ويكون “المهر” غالباً مجرد حبر على ورق يُكتب في عقد الزواج. ويمكن للزوجة المطالبة به في حال الطلاق أوالوفاة.

 في المقابل، فالقصص التي تروى عن معاناة الأسر السورية، في مخيمات اللجوء أكثر من أن تعد، بحيث دفعت بالكثير من العائلات إلى السعي للتخلص من بناتهن عبر ما يسمى “الزواج والسترة”، وتقديمهن لطامع أو ثري، معظمهم متزوّج أو متقدّم في السن، مقابل ما يُدفَع من مهر.

كذلك دفعت هذه الظروف بالبنات أحياناً إلى التضحية بأنفسهن لمساعدة عائلاتهن، فعبير مثلاً، ابنة الثلاثة عشر ربيعاً، اضطرّت للنزوح مع أمها وإخوتها الأربعة إلى مخيمات اللجوء في الأردن بعد مقتل والدها وتهدم بيتهم، فهجرت الدراسة، وذاقت مع أمها وأخوتها ذل الفقر والحاجة، لذا قررت التضحية بنفسها لمساعدة أمها الثكلى وإخوتها الأيتام، والموافقة على الزواج من كهل يكبرها بأربعين عاماً، مقابل مبلغ من المال ُدفع لأمها كمهر لها.

لم تكن هذه الحالة فريدة من نوعها، إذ هناك آلاف الحالات المشابهة في مخيمات اللجوء، سواء في الأردن أو لبنان أو تركيا، والتي تنتشر فيها حالات الزواج العرفي. علماً أنّ القانون التركي يرفض الاعتراف بزواج غير مُثبّت في السجلات الرسميّة.

 فيما يعتبر القانون الأردني، سن الزواج للفتاة هو 18، باستثناء حالات جداً خاصة يترك للقاضي الشرعي تقديرها، كون هذه السن هي سن النضوج العقلي والجسدي والعاطفي. ولا يعترف بصحة زواج القاصرات، بخلاف قانون الأحوال الشخصية السوري، الذي يجيز زواج القاصرات ويعتبره أمراً شرعياً شريطة موافقة ولي الأمر، واحتمال جسدي العروسين.

وبالتالي لا يمكن تسجيل أغلب حالات زواج القاصرات في مخيمات اللجوء في السجلات الرسمية لتلك الدول. الأمر الذي اضطر كثيراً من العائلات، إلى القبول بهذا الشكل من الزواج المعروف بالزواج العرفي مقابل  تأكيد الزوج أنه سيسجل الزواج رسميّاً فور وصوله إلى بلده. لكن الزوج غالباً لا يفي بوعده، بل الأسوأ أنه يغادر إلى بلده تاركاً الضحية لظرفها الذي يزداد سوءاً.

في هذا السياق تقول مسؤولة مكافحة الإتجار بالبشر في “منظمة الهجرة الدولية”، الدكتورة “أميرة محمد”: (إن مثل هذا الزواج هو عادة غطاء قانوني للاستغلال الجنسي، وهو قصير الأجل، يمكن ألا يدوم أكثر من 24 ساعة).

في حين اعتبر المؤتمر الدولي للاتجار بالبشر، المنعقد في فينيا /شباط 2014/، أنّ الزواج المبكر شكل من أشكال الاتجار بالبشر، وأنّ هناك 14 مليون طفلة تموت سنويا بسبب الاغتصاب والزواج المبكر، الأمر الذي يجعل الحديث عن الزواج المبكر للفتيات أمراً يتخطى حدود حرمان الفتاة من التعليم وتحقيق الذات … الخ، إلى اعتباره أحد أشكال العبودية الحديثة، الهدف منه “المتعة الجنسية”.

ويمكننا التقدير أنّ الحصة الأكبر في الرقم السابق هي من نصيب السوريات القصّر، وبشكل خاص في ظرف الفوضى التي تسم الحالة السورية، إذ يتجاوز الأمر حد “المتعة الجنسية”، بحيث نجد أنفسنا أمام جريمة تمارس يومياً تحت غطاء “الزواج”، فيما ترغم بعض من الضحايا لاحقاً على ممارسة الدعارة، وفي حالات ليست قليلة يجري بيع الأطفال نتاج هذه العلاقة، دون أن تتمكن الضحية من حماية نفسها أو مولودها.

خطورة هذه الجريمة تكمن في أنها تطال المجتمع والضحية معاً. فهي من ناحية تكرّس قيماً غير أخلاقية يقبلها المجتمع التقليدي ويبررها، ومن جهة أخرى تثير المخاوف من تكرار “المتاجرة” بالضحية عبر إعادة تزويجها بآخرين، أو إلزامها بالعمل في “الدعارة”، مستغلين في ذلك صغر سنها وتدني مستوى تعليمها وافتقارها للخبرات والمعارف العملية التي تؤهلها لإيجاد فرصة عمل حقيقة تعيل من خلالها نفسها وأسرتها.

عودة على البدء، لا بد من القول إنّ ظاهرة زواج القاصرات السوريات في مناطق النزوح ومخيمات اللجوء، هي إحدى تعبيرات استمرار الحرب السورية طيلة هذه المدة، وتشعّب أطراف الصراع فيها، وإطالة أمد معاناة الأسر السورية النازحة واللاجئة، وخاصة تلك التي فقدت معيلها وممتلكاتها، بحيث باتت تبحث عن سند، أو أمان لأبنائها وبناتها، وهو الأمر الذي جعلها توافق على هذا الشكل من الزواج.

إلا أن الواقع المعاش أكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ هذا الشكل من الزواج لم يحمل لفتياتنا الستر والأمان، بقدر ما كان يحمل لهن الأزمات والجراح، حتى أنه يمكن القول، إنّ هذه الزيجات حوّلت المرأة السورية من ضحية الحرب إلى ضحية الاستعباد، وهي التي رفضت الظلم وتحدت الظالم، لا بد  لها من رفض هذا الواقع. ولا بد للأهل من الكف عن الموافقة على تزويج بناتهن القاصرات مهما كانت الإغراءات، في مقابل محاولة تعليمها وتشجيّعها على العمل الشريف مهما كان متواضعاً ومحدود الأجر بدلاً من الاستسلام لزواج من هذه الشاكلة. ولا بد أيضاً من تحرك منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والإنسانية، بالإضافة إلى الجهات الحكومية، لتسليط الضوء على هذه الظاهرة، والعمل على الحد من انتشارها.

Exit mobile version