أحد سكان المدن المحاصرة في سوريا: إذا لم يكن استخدام السلاح الكيماوي لقتل الأطفال “خطاً أحمر” فما هو إذاً هذا “الخط الأحمر”؟
Olivia Alabaster
ترجمة : طلعنا عالحرية
تتعرض مدينة دوما المحاصرة، والواقعة في سوريا على بعد 10 كم عن العاصمة دمشق لقصف عنيف من قبل النظام السوري والطيران الروسي في الأسابيع الأخيرة. يتحدث أسامة نصّار وهو أحد المقيمين في المدينة عن شكل الحياة هناك:
“عادة ما يبدأ القصف باكراً، حوالي الساعة الثامنة صباحاً، ويستمر طوال النهار. ومؤخراً هناك تصعيد جديد وهو قصف جوي حتى في الليل. نستيقط عند سماع أول انفجار، نقول، “الحمد لله!” ما زلنا على قيد الحياة. أحياناً نسرع إلى قبو البناء الذي استأجرناه للاحتماء وقت القصف. ولكن في كثير من الأحيان يصيبنا الملل من الاختباء ونقرر ببساطة أن نتجاهل القصف. لم أخبر زوجتي وابنتي بذلك، ولكني سئمت فعلاً من إجراءات “الأمان” فالعديد من القتلى سقطوا حتى وهم مختبئون في أقبية!
أذهب لمكتبي بعد الفطور، والمكتب في نفس البناء الذي فيه البيت مما يساعد على اختصار فترة المشي في الشوارع المكشوفة.
أدير مكتب الحراك السلمي السوري هنا، وهي منظمة غير حكومية أُسست خلال الأيام الأولى للثورة السورية سنة 2011.
بما يخص الطعام، أعتبر عائلتي ضمن الأقلية المحظوظة، فزوجتي وأنا عندنا عمل. على الفطور نتناول اللبنة (اللبن الرائب المصفّى) أو الجبن، وأحياناً مع بعض المربى. ونتناول وجبة أخرى خلال النهار. اليوم مثلاً تناولنا الرز مع بندورة مطبوخة، وأحياناً يكون عندنا لحم. في معظم الأحيان نتمكن من تأمين الحليب لابنتنا الصغيرة. ومررنا بشهور طويلة بدون أي قهوة أو شاي.
انتقلت من دمشق للسكن في دوما في منتصف 2013، حيث كنت مطلوباً من قبل قوات النظام بسبب نشاطي في العمل السلمي. اعتقلت مرتين خلال الثورة، مرة في أيار 2011 ولم أتمكن من حضور ولادة ابنتي الأولى في 10 حزيران. عندما أطلق سراحي كان عمرها 17 يوماً. اسمها إيمار وتبلغ الآن أربعة أعوام.
وصلت إلى الغوطة بعد تحريرها بقليل. وكان هناك جو عام من الأمل، وكان الناس يعملون على إنشاء مدارس بديلة خارج سلطة النظام، ومؤسسات مدنية جديدة كالدفاع المدني والمجالس المحلية. كما كان هناك منتديات ثقافية وجرائد ومجلات ومحطات راديو محلية. كان ثمة شعور بأن سقوط النظام أصبح وشيكاً.
في ذلك الوقت كان الطريق من وإلى دمشق لا يزال مفتوحاً بحيث يستطيع الناس من غير المطلوبين للنظام الذهاب والعودة بواسطة المواصلات العادية من الطرق النظامية. كان القصف متواصلاً والكهرباء منقطعة.
لكن تم تشديد الحصار ابتداءاً من شهر تشرين الأول من نفس السنة. فصار الوضع صعباً جداً. لم يكن هناك طعام في الأسواق، ولا وقود. تقريباً كل شيء كان مفقوداً. ولم يكن هناك تهريب لأي مادة. لم يكن هناك خبز أو حتى طحين لصنعه، ولا حتى رز أو بطاطا كبديل عن الخبز.
كانت المعاناة مضاعفة بخصوص ابنتنا التي تأثرت من نقص المواد. هل يمكنك أن تتخيلي طفلاً صغيراً دون بسكويتة أو قطعة شوكولا صغيرة لعدة أسابيع؟!
أحيانا كان يوجد بعض الأنواع القليلة من الخضار. وقد حاولت أن أزرع بعض الخضار بنفسي. في البداية كان اللحم متوفراً وكان أرخص حتى من الرز والبرغل. وذلك لأن المزارعين اضطروا أن يذبحوا مواشيهم لأنهم لم يكونوا قادرين على إطعامها. بل إنهم اضطروا حتى لذبح الجمال.
والآن يتوفر بعض اللحم من داخل الغوطة، ولكن بأسعار باهظة جداً. وكذلك الحليب ومشتقاته. في بعض الأحيان يتم تهريب بعض الدجاج والبيض إلى داخل الغوطة. يبلغ سعر ربطة الخبز 600 ليرة (أكثر من 3$) وتحتاج العائلة المتوسطة لربطة واحدة على الأقل باليوم، فوزن الربطة هنا أقل من نصف وزنها النظامي قبل الحرب. الوزن (النظامي) كان 1 كيلو.
ولكن وضع الطعام بشكل عام أفضل قليلاً من السابق. هذا الكلام نسبي بالطبع. خلال أسوأ أوقات الحصار كانت أسعار المواد العذائية تبلغ عشرين ضعفاً من مثيلاتها في دمشق، والآن تبلغ حوالي سبعة أضعاف. ربما يعود ذلك لتزايد طرق التهريب هذه الأيام.
لا وجود للكهرباء حالياً، ولذا عملنا على تركيب ألواح تولد الكهرباء من الطاقة الشمسية. وكان عندنا سخان للماء على الطاقة الشمسية أيضاً، لكنه تحطم بسبب القصف بمدافع الهاون. وسيحلّ الشتاء قريباً، مما يستدعي استعمال الحطب للتدفئة.
بدأنا مؤخراً بحملة تشجير بالتعاون مع مدارس محلية هنا، لتشجيع الناس على زراعة الشجر لتعويض النقص الحاصل بسبب التحطيب المتواصل في المنطقة.
بالمجمل ساءت الأحوال مؤخراً، والتدهور مستمر. نشعر أن لا أحد يهتم بأننا نُذبح كل يوم. لا توجد مساحة مترين في دوما لم تتعرض للقصف.
تعرض البناء الذي أسكن فيه مثلاً للقصف عدة مرات، ولكن -ولله الحمد- تسبب بخسائر مادية فقط. نوافذنا المصنوعة من النايلون تخربت بسبب الشظايا أو ضغط الإنفجارات. خلال العشرة أيام الأخيرة فقط اضطررنا لإصلاحها مرتين. لا يوجد نوافذ زجاجية في كل الغوطة، المنطقة التي تقع فيها مدينة دوما. كل الزجاج في المنطقة تهشّم بفعل القصف المتواصل.
في الثاني من تشرين الثاني تعرضت إحدى المشافي الميدانية للقصف بغارات الطيران. كان مشفى الإسعاف الوحيد الباقي في المدينة. ارتقى عدد من الكادر الطبي شهيداً وكان هناك عشرات الجرحى. والآن يتمّ نقل الحالات الإسعافية إلى مكان آخر في الغوطة. كلما رأيت بناءاً مُدمّراً بفعل القصف أتساءل، لماذا لم أكن فيه؟! مررت بهذه الطرقات دائماً.
ربما هم يريدون الضغط على الناس أكثر. الناس في دوما تعرضوا لأقصى الضغوط. ولكن دائماً بإمكانهم قتل المزيد من البشر. يريدون أن يزيدوا صعوبة البقاء بخلق ضغوط أكثر علينا وبمزيد من الصعوبات والتصعيد – بقتل عدد أكبر من أطفالنا.
كنت هنا عندما استخدم النظام السلاح الكيماوي للهجوم على الغوطة الشرقية في آب 2013. وظننا أنه لا بد أن يتغير شيء ما بعدها لإيقاف القتل. إذا لم يكن استخدام السلاح الكيماوي لقتل الأطفال “خطاً أحمر” فما هو إذاً هذا “الخط الأحمر”؟
هذه رخصة قتل مفتوحة يعطيها المجتمع الدولي لبشار الأسد. إنهم يقولون ببساطة إن بإمكانك قتل المزيد، بل بإمكانك جلب جيوش أخرى لقتل السوريين إذا كنت في شحّ للسلاح أو للجنود. مازال العالم بأسره يراقب الأطفال والنساء السوريين وهم يُقتلون بالبراميل المتفجرة وغارات الطيران الحربي. ولا أحد يتخذ أي إجراء لوقف المجزرة المستمرة. وجدت أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على توازني هي في الاستمرار. فبعد خسارة الأصدقاء والأحباب، البيوت وأسباب الرزق وكل المدخرات لا يملك الناس خياراً إلا متابعة حياتهم.
مازلت مقتنعاً بأفكاري في اللاعنف. نحن نرى اليوم كيف تدهور الوضع مع مزيد من العنف. حتى وإن كان السلام بعيد المنال الآن، فلا يعنى هذا أن ندعم مزيداً من الأسلحة ومزيداً من العنف. أعتقد أن المجتمع الدولي يعرف كيف يمكن إيقاف القتل في سوريا، لكن لا يبدو أنهم يقيمون وزناً للأرواح من الشعب السوري.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج