مجلة طلعنا عالحرية

رسالة إلى فرانسواز آردي

(فرانسواز آردي Françoise Hardy أشهر مطربة بوب فرنسية في جيل الستينيّات تعيش في باريس وتصارع المرض والشيخوخة.

عزيزتي فرانسواز..
قد يفاجئك أن أبدأ رسالتي بالقول إني لست من هواة الاستماع للأغاني. وأرجو -كونك تتوقعين طبعاً أني أحد معجبيكِ- ألا تتخيليني كواحدٍ من أولئك المخبولين الذين يمشون في الطرقات ويركبون وسائط النقل العامة واضعين السمّاعات الصغيرة في آذانهم ويستمعون للموسيقى وهم شاردون عمّن حولهم.
لكن قد يسرّك أن تعلمي أنّي من ذلك الصنف من الناس الذين قد تسحرهم أغنية عابرة فتسحبهم من خواطر الدنيا كلّها، وترميهم في الخيالات العجيبة التي تحدثها فيهم. هناك في حياتي بضع أغانٍ أحدثت بي هذا الأثر، وكانت أغنيتك عن الصداقة l’amitie آخر واحدةٍ فيها. لا تستغربي! فأنا أستمع لأغانيكِ لأوّل مرّة، ولم أسمع باسمك من قبل أبداً!
أنا لاجئ من سوريا، وصلت فرنسا قبل سنتين، وأحاول بصعوبة أن أتعلم الفرنسية وأتأقلم على حياتي الجديدة في بلادك.
عندما غزَتني أحاسيسك من خلال أغنية الصداقة شعرت أن غيمةً حملتني من الأرض إلى السماء. وعندما ترجمت كلمات الأغنية للعربية وجدت أن فيها بالفعل غيمةً وشمساً ومطراً وفصولاً، وهي ثيمات غائبة عن معظم الأغاني الفرنسية هذه الأيام. وهكذا فأنا لم يسحرني صوتك فحسب، بل كلمات الأغنية أيضاً، وبصراحة جمالك الأصليّ غير المبتذل، وقفتك الرزينة ولباسك الجميل المحتشم.
هل يفاجئك أن أجنبياً جاء ليعيش في بلدك منذ سنتين فقط، لكن أول من أعجبهُ من الفنّانين مطربة بلغت ذروة شعبيتها في الستينيات؟ هل تعلمين يا فرانسواز؟ إن فرنسا التي جئت أبحث عنها تتمثل عندي بالتفاصيل الدقيقة التي تطبع فنّك وشخصيتك، وهي أشياء لم أجدها في فرنسا اليوم. وقد أحزنني يا سيدتي الجميلة أنك مريضة كما علمت عندما ذهبت أستقصي أخبارك. هل أقول لك شيئاً؟ إن فرنسا مريضةٌ أيضاً! قد لا يسرّك أن يقول لاجئ هاربٌ من الموت هذا الكلام عن بلدٍ أعطاه اللجوء وقدّم له الحماية، لكنّي أبثّك خيبة أملي لأن لا أحدَ من الفرنسيين من حولي يفهمني عندما أحاول أن أسأله عن الخلل. إن الفرنسيين يا فرانسواز لا يرون في بلادهم ما يثير قلقهم وهذا يثير استغرابي. هل تفهمين قصدي؟
على سبيل المثال، لقد أعجبتني جداً كلمات من قبيل الإخلاص والرّحمة التي ذكرتيها في الأغنية وأنت تتحدثين عن الصداقة. هل تعلمين يا فرانسواز أن هذه المعاني صارت موضةً قديمة، وأن من يتمسك بها يعتبر شخصاً غير عمليّ؟
في فرنسا وفي الغرب عموماً يخجل المرء أن يتحدث عن معاني الصداقة. الكلّ يركض وراء المال، وإذا كان ولابدّ من علاقاتٍ إنسانية فيجب أن تقوم على المصالح المشتركة. وأنا كهاربٍ وصلت فرنسا بحثاً عن حريتي وكرامتي، لم يمدّ لي أحدٌ يده من أجل الصداقة. ولم أر رحمةً من أحد. لقد وجدوا جيوبي فارغة. الجيب هو الذي يتفاضل به الناس في فرنسا.
وهل تعلمين ما الذي صدمني أكثر شيء في صداقات الفرنسيين؟ إن أفضل أصدقائهم الكلاب، ينامون معهم في غرف نومهم ويرافقونهم عندما يتمشّون أو يذهبون للنزهة. أنا أيضاً أحب الكلاب يا فرانسواز، لكن لماذا لا يتمشّى الفرنسيون مع بعضهم البعض؟
عندما فتشت في اليوتيوب بحثاً عن أغانيك الأخرى ذوبتني تلك الأغاني التي تتحدث عن الحب. الحب يا فرانسواز هو الذي يعطي الحياة طعمها، وأنا جئت من بيئةٍ طالما ساد الاعتقاد فيها أن باريس مدينة الحب، وأن الفرنسيين أكثر شعبٍ رومنسيّ في العالم. لقد وجدت كل ذلك صحيحاً في عينيك وفي أغانيك. لكن الحبّ الذي تحكي عنه الصحف ووسائل الإعلام عند الفرنسيين اليوم هو الحبّ داخل الجنس الواحد. صار الحب بين الذكر والأنثى موضة قديمة لم يعد يكترث بها أحد. لكني يا فرانسواز ما زلت أرى الفرنسيات جميلات وجديراتٍ بالحبّ. الحسن في عيون الفرنسيات يطغى على قلوب أعتى الرجال، لكن كثيرات منهنّ لا يعبأن بالرجال، ومعظمهن لا يرغبن بالإنجاب.
هل كان الأمر كذلك في الستينيات؟ أعلم أن إجابتك ستكون بالنفي ولذلك فأنت ستتفهّمين صدمتي التي لا تنتهي بأحوال فرنسا.
إن أذُني هي التي أسست للعلاقة بيني وبينك في هذا العالم. الأذن يا فرانسواز فيها كثير من أسرار بشريتنا وكم حزنت عندما علمت أنك مصابة بالسرطان في أذنك. هل فقدت السمع؟ إن فرنسا نفسها مصابةٌ بالصمم يا فرانسواز. إنها لا تسمع الآخرين أبداً، وخصوصاً إذا كانوا مختلفين.
والسرطان! هذا العدو الشرس للحياة؛ أتمنى أن ينسحب أمام رقّتك وإنسانيتك. أنا أعرف السرطان جيداً يا فرانسواز. لقد أُصيب به أخي قبل ثلاث سنين وكسر قلبي يومها. واسمحي لي أن أعترف لك أن قلبي ينكسر اليوم من أجلك، ومن أجل فرنسا التي أراها -ولعلّي أكون مخطئاً- تسير نحو الهاوية.

Exit mobile version