مجلة طلعنا عالحرية

رسائل على هيئة لهاث(خطوتان إلى الخلف)

حسين الضاهر

راودتني فكرة كتابة هذه الرسائل، أو لنقل بشكل أدق: هاجمتني؛ فعلاقتي مع الكتابة مؤخراً باتت تشبه التائه في غابة مظلمة، في حين تتربص بهِ أنياب المفردات.
هللويا!!
أرأيتم؟ أستطيع التفوه بعبارات كالتي يطلقها المثقفون وهم معلقون من ربطات عنقهم على المنصات.
تعالوا لأخبركم الحقيقة، بالطبع إن كنتم ترغبون بذلك، وإن لم ترغبوا فبإمكانكم الآن منذ هذه اللحظة إتمام اللا شيء الذي تفعلونه بعيداً عني، أو ربما ستذهبون إلى المطبخ بخطى متثاقلة لتعدوا وجبة خفيفة أو ثقيلة أو ربما ستكسرون عنق زجاجة نبيذ لأنكم ببساطة لا تمتلكون مفتاحها. من يدري؟
لكن إن أكملتم القراءة، سأقول لكم: إنني بحاجة للكتابة فقط لأسدد فواتير حياتي المتراكمة منذ العصور الغابرة، وأيضاً لكي أسدد لكمة في صدغ هذا الفراغ المتوحش، لأشتري مفتاح زجاجات، لأحصل على ثياب جديدة وعلى أكبر عدد من التفاعلات في وسائل التواصل
الساعة الثالثة فجراً
ها أنا أجوب الشرفة كملدوغ، أدخن سيجارة أخيرة، فعلبة سجائري فرغت كتابوتٍ في عصر الخلود، والمدينة في الخارج نائمة كعادتها تحتضن أبنائها برفقٍ، ترضعهم السكينة كلما طرق باب نعاسهم كابوس طارئ، بينما تنثر رماد الأرق في عينيّ. أعلم أنكم ستتوقفون عند الجملة الأخيرة وتصرخون بملأ أفواهكم: تباً ما هذه السخافة!!
نعم، لكنني لا أملك الآن إلا هذه الصورة المستهلكة. سامحوني.. ولنكمل.
فكرة التدخين على الشرفة لم تكن من ابتداع عقلي، ولا تقليداً لسكان العالم الأول الذين يؤثرون رئات أطفالهم وأزواجهم على رئاتهم المتفحمة؛ بل هي فكرة صديقتي التي ارتأت في هذا الفعل تقليلاً من عدد السجائر التي بت أنفث دخانها كقطار كهل. فهي تعلم مدى كسلي، كما تعلم أني لن أكمل ما تبقى من أيام عمري مصلوباً على الشرفة كتمثال لإله المدخنين. هكذا أتشارك مع من أحب المطبات التي تعترض القطار الكهل، ودائماً يجدون لي طرقاً سالكة لأتخذها، ومنها كتابة مثل هذه الرسائل.
عزيزتي السيدة (….)
مضت شهور على أول حديث دار بيننا، وللعلم، أذكرها لحظة، لحظة، بكل ما فيها من عبثية واتزان، بكل البهجة التي داهمت روحي المتنصلة من جوقة الببغاوات الهائمة في الخارج، وبكل الطعنات التي انتظرنا التفات أحدنا إلى جهة شروق العالم لنغدر به ببضع كلمات.
أذكر جيداً حين قلتِ بصوتكِ الخزفي: تعال اقترب أريد أن أهمس في أذنك كلمة واحدة. كنتِ ماهرة في الإيقاع بعصفور مبلل ومطرود خارج السرب، أو ربما هذا هو المصير الذي ينتظر كل من يؤمن للحظة بعدالة الحياة في توزيع مقادير الحب.
أذكر حين احتفلت الأرض بمجيئكِ، بينما كنت أطرق أبواب المدن بحثاً عن أحد يجيد كتابة اسمكِ على قلادة أو على قالب حلوى، اسمكِ الذي يبدأ دائماً بهمزة تفرّ كلما حاولتُ إمساكها.
أذكر طعم الدم في فمي، ولسعات الدمع على جلدي، ولا أذكر طعم قالب الحلوى؛ فقد أهديته لكل طفلٍ سمع عن الحب ولم يتذوقه.
يا امرأة من زئبق!
لا يحب؛ من يمتلك الوقت لانتقاء المفردات عندما يحادث نصف قلبه.
لا يحب؛ من يستطيع التفريق بين المنطق والوهم.
لا أدري، هل أطلق على تلك الشهور اسم ابتسامة أم سكين؟ قد تكون كلا التسميتين صالحتين، فهكذا هو الحب؛ يستفيق على هيئة قبلة رطبة، ويغفو كرصاصة يابسةٍ في منتصف القلب.
لم أكن أرغب بلمسة يدٍ تحيل قلبي طائراً ممسوساً بداء البهجة.
لم أرغب أن تقطعي الكون مشياً على قلبكِ، ولا على قدميكِ الصغيرتين؛ كي تقدمي لهذا المحاصر بين خريفين رائحتكِ على طبقٍ من ربيع.
لم أحلم بحب يتحدث عنه الشعراء في قصائدهم، والمجانين في نوبات صرعهم، والعمال في أوقات استراحتهم، والمشاهدون في لحظات الفاصل الإعلاني.
لا، لم أنتظر رسالة صباحية تطرق قرنيتي الهرمة، ولا فنجان قهوة برفقتكِ «في حته بعيدة».
أتدرين؟
لم أعد أقوى على نصب الفخاخ للإيقاع بعصافير المسافة، سأدعها تموت ببطء كما في أيامها العادية، بينما سأجلس كعادتي خالياً من كل شيء أقّشر القصائد وألقمها للمارة؛ كلمة، كلمة.
خلف هذا الجدار أنتِ وأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، أتلاحظين معي؟ حتى أرضنا العظيمة تحتاج شيئاً تلهث حوله؛ لذا لا تشعري بالسخط كلما تتبعتكِ كقطٍ جائع.
لدي الآن متسع لكتابة كثير من هذا الهراء، وللموت مثل شاعر أخرق؛ كأن أتجرع شريط حبوب الاكتئاب المركون أعلى الخزانة دفعةً واحدة، بعد أن أكتب رسالة خرقاء أرثي فيها جثتي، وأشتم عبثية الحياة وأتذمّر، لكنني لن أفعلها اليوم فما زال في قلبي مساحة عشبية للعبة الحب.
البارحة أيضاً، حين أرسلت إليكِ جزءاً من هذه الكلمات؛ لم أنتظر منكِ أن تسفحي رقبة السوء الذي وجد متسعاً له بيننا، لأنني علمت أنكِ أتلفتِ قوارب العودة، وأحرقتِ كل ما يمت إليّ بصلة.
بصراحة؛ ما عاد الأمر مهماً، فالأيام كفيلة بترميم أيّ كيان متصدع.
ولن أكابر الآن بالقول إنني عاكف على إصلاح ما خلفه غيابكِ، فقد أسلمت نفسي للحزن بكامل أهليتي وجنوني، وأظن أن هذا الفعل سيضمر هو الآخر مع مرور الأيام، أو ربما سيتبدد بفعل ضربة مباغتة تغير مجرى حياتي البائسة.
ها أنا أستمر في الكتابة وبمراقبتكِ، أراقب الصور التي تحاولين الظهور فيها مبتسمةً دائماً، ومن حولكِ أشجار تعدو في مكانها، وفراشات تمارس أدوارها الثانوية على أفضل ما يرام، وزهور تكاد تخرج عن النص من فرط نضارتها.
قد يكون المشهد سعيداً في رأي العابرين، أنا الوحيد الذي يلتقط حزنكِ من جميع المشاهد.
هامش: لا تفكري فيما كتبت، فقط حاولي أن تحشري قلبكِ الآن في إحدى الزوايا؛ من المؤكد أنه سيعضكِ وستتألمين.

Exit mobile version