لا أعرف أحداً انشغل بقضية المعتقلين كما فعلت رزان زيتونة.. قضيتها معهم ليست طارئة ولم تولد مع الثورة.. بل هي قضية حياة ووجود.. قضية وجدان ونزوع متوقد نحو العدالة والحرية والكرامة الإنسانية.
ومن قبل انطلاقة ثورة الحرية، لم تكن معركة رزان من أجل المعتقلين مجرد معركة سياسية لقلب نظام الحكم، بل كانت شأناً إنسانياً كبيراً يستحق العيش أو الموت من أجله، وأشعر إنه من الواجب التذكير بما لم يذكر، وهو أن اهتمامها لم يقتصر على المعتقلين في أقبية النظام السوري فقط، بل امتد خارج الأسوار الأسدية ليصل إلى المعتقلات الإسرائيلية حيث كان يقبع أسرى الجولان المحتل المنسيين.
كان الكاتب “ياسين الحاج صالح” أول كاتب سوري من خارج الجولان المحتل يطرح قضية الأسرى السوريين في معتقلات إسرائيل، هؤلاء الأسرى الذين كانوا، كما كان الجولان نفسه، نسياً منسياً على المستويين الرسمي والشعبي في دولة البعث والممانعة. كان هذا في بداية عام 2005 حيث تبعته بقليل رزان زيتونة، فبدأوا بكتابة المقالات ونشرها في كافة المواقع والجرائد الممكنة، وعملوا على استثارة القوى المدنية في سوريا وهيئات حقوق الإنسان للاهتمام بقضية الجولان المحتل ومحاولة إنتاجها في الوعي السوري، وكتب ياسين في مقال حمل عنوان “سجناء سوريون في إسرائيل” وأثار ضجة آنذاك: “المصلحة السورية تقتضي توسيع دائرة التفاعلات بين السوريين على ضفتي الحدود. وهذا ما يجدر بالقادرين من المواطنين السوريين، مثقفين وناشطين..، أن يبدو مزيدا من الاهتمام به. فالجولان قضية أهم من أن تترك لأجهزة سلطة منشغلة بصورتها ونفوذها قبل أي شيء آخر”.
ثم بدأت رزان ببناء موقع الكتروني خاص بأسرى الجولان “فري جولان”، وذلك بالتعاون مع موقع جريدة بانياس التي كانت تصدر في الجولان المحتل آنذاك.
طبعاً كان الأمل كبيراً في البداية، رزان ترسل إلى كل أصدقائها والى كل المهتمين وكل المواقع وهيئات حقوق الإنسان والناشطين السوريين من أجل دعم هذا الموقع وتطويره، تتوقع الكثير من ردود الفعل والمشاركات والاهتمام… كما سيتوقع الأسير السوري سيطان الولي بعد ذلك: “إن موقع “الجولان حر” هو شعاع الفجر الأول نأمل أن يتبعه شروق وسطوع واستمرار في الحركة وانتقال في المواقع نحو الأعلى حتى إذا ما غربت ومالت نحو العتمة، يبقى الثابت الأكيد هو شروق من جديد.”
أرادت رزان أن تراسل الأسرى، أن تسمع صوتهم مباشرة إليها، أرادت أن تحس بهم وان يحسوا بها، وحين أخبرتها أنه من الممكن أن أوصل لهم رسائلها طارت من الفرح، وفي اليوم التالي كانت رسالتها لدي، ووصلت الرسالة إلى المعتقل…
لم يمض وقت طويل حتى جاء الرد من الأسير (الراحل) سيطان الولي: “وترنمت آذاننا بصدى المعاني التي انشقت كخيوط الفجر…” رسالة إلى موقع فري جولان، إلى الأخت رزان زيتونة.
كم كان طويلاً انتظار أسرانا… كتب سيطان يومها: “نحن وراء القضبان أحوج ما نكون إلى ذلك الدفق المتواصل.. أننا كالأرض التي تنتظر الهطل منذ عشرين عاما…”
واستمرت رزان مع عدد من الأصدقاء والصديقات وطلاب المدارس بكتابة الرسائل للمعتقلين فرداً فرداً، وتكفلت أنا بالتعاون مع بعض أصدقاء وذوي المعتقلين هنا بنقل تلك الرسائل إلى داخل المعتقلات ومن ثم تلقى الردود عليها من الأسرى لأنقلها لرزان ورفاقها.
كنت ألمس يوماً بعد يوم خيبة رزان التي تكبر نتيجة العجز وقلة التأثير في ذلك الواقع، لم يهتم إلا القلائل بما رأته هاماً ويستوجب العمل، لا من ناشطي سوريا ولا من غيرهم، لم تُرسل رسائل الاحتجاج والتضامن، لم يبادر أحد إلى المساهمة في تطوير ذاك التواصل أو تبنيه، إلا بعض من الرفاق وبعض من الجولانيين، والأسرى أنفسهم..
كتبت رزان بحرقة بعد ذلك: “نحن، لدينا مئات من المعتقلين في سجون النظام، وكل منا هو مشروع معتقل، وأرضنا “حرة” من أي احتلال، لكننا لا نملك منها رصيفا نتظاهر عليه، أو منزلا نقيم فيه حوارا، أو طفلا يحلم بحرية… من أرادنا غرباء عن بلدنا، أرادنا بعيدين عن أسرانا وأرضنا المحتلة..”.
الآن.. وبعد ثلاث سنوات من الكفاح والألم.. بعد ثورة عظيمة قامت كي نعود جميعاً أبناءً لهذا البلد.. تختطف رزان ورفاقها في قلب المناطق المحررة..! عمل أقل ما يقال فيه إنه إهانة للثورة السورية وصفعة قوية لوجهها المدني.. ومحاولة لترسيخ العنف والقتل والانتقام طريقاً أوحد لمستقبل السوريين.
ملّ البعض من المطالبة بالحرية لرزان بعد أيام معدودة.. ! وهي التي لم تمل طوال سنوات نضالها، واستكثر البعض بضع بيانات تستنكر اختطافها، لهؤلاء نقول: نعم.. كل معتقل ومختطف هو قضية إنسانية كبرى وتستحق كل الاهتمام والمطالبة.. وعندما نطالب بالحرية لرزان فإننا نطالب بالحرية للآلاف الذين كانت رزان صوتهم.
كاتبة صحافية وناشطة سورية من الجولان المحتل، نائب رئيس تحرير طلعنا عالحرية.