بدون مقدمات، أصبح من المؤكد أن ما يسمى “جيش الإسلام” لم يكن يمتلك أجندات وطنية، ولا حتى إسلامية، بل كانت أجنداته سياسية ومن النوع الضيق، وقودها شباب الغوطة الذين ضحّوا بحيواتهم معتقدين أنهم يعملون لما فيه خير البلد، لكن على الأرض كنا نرى ممارسات جيش الإسلام غير الأخلاقية، وغير الوطنية، والبعيدة كل البعد عن واقع الثورة، هي السمة الأبرز لحقبته هناك، وكنا نصمت، خائفين من فضح أنفسنا، وكأننا إذا كشفنا ممارساته سنتحمل ذنب فشلٍ محتمل للثورة، علماً أن صمتنا أدى عملياً إلى فشلنا، وأدى بأولئك إلى تغليب مصالحهم الشخصية الضيقة على مصلحة الوطن، حين لم يعد لديهم خوف من رقيب، أو ناقل لحقيقتهم.
لقد رأى كل الصحفيين السوريين صورة قائد جيش الإسلام بعد خروجه من الغوطة الشرقية، وهو من لم ينتصر في أي معركة، اللهم سوى معركته ضدّ القلم، حين أغلق بيوم من الأيام مجلة “طلعنا عالحرية” بداعي تأثيرها السلبي على المجتمع، كيف له أن يقرر بصفقة مخابراتية إقليمية، الانسحاب من غوطة دمشق إلى تركيا، ليفتتح هناك سلسلة مشاريع تجارية، تاركاً وراءه كل هذا الخراب، وآلاف المدنيين الذين اضطروا لمصالحة نظام ثاروا عليه، وآلاف الشباب الذين سيقوا إلى الخدمة العسكرية الإجبارية، أي خيانة هذه؟! وكيف للمدافعين عن الإسلام أن يختزلوه ويختصروه بالدفاع عن أشخاص متدنّين كهؤلاء، وجماعات ومنظمات ليس لها من الإسلام سوى الأسماء!
لست شامتاً، ولا أحاول التشفي بهذا الجيش، ولا بقادته، لكن قبل عامين وقبل أن يقوم جيش الإسلام في الغوطة الشرقية بإغلاق مجلة طلعنا عالحرية، لم أكن في هذه الصحيفة بالذات أستطيع تناول جيش الإسلام بهذه الطريقة لسببين، أصبح بينهما ارتباطاً وثيقاً؛ الأول هو أن جيش الإسلام كان سيغلقها منذ البداية، فكان الكتاب يراعون وضعه كسلطة أمر واقع، وبالتالي فإن نقل جزء من الحقيقة أفضل من عدم وصولها إلى هناك، ما أُدرك لاحقاً أن السكوت عن تفاصيل، في سبيل الحفاظ على العناوين، خلق طبقات من التجاهل والنكران، حالت بين الشعب السوري وبين معرفته الحقيقة، وكرّست هذه الطبقات فيما بعد جهلاً كاملاً بطبيعة هذه المجموعات المسلحة ومن يديرها، وماذا كانت تملك من مال وأسلحة ومخازن غذاء، في منطقة منكوبة كالغوطة.. أغرقتنا تلك التفاصيل التي لم يعرفها سوى الصحفيون، ومعها غرقت عناوين الثورة وشعاراتها الرنانة!
حين تهرب الجيوش، يعود أصحاب الأقلام، ليكونوا الأقوى، ليكملوا الطريق، ليتعلموا من دروسهم السابقة، ليطالبوا الشعب بالسير خلف عقله، لا خلف عاطفته، للوصول إلى التغيير المقصود، نكمل نحن ما بدأناه ويتفرغ قائد جيش الإسلام لمشاريعه التجارية في اسطنبول التركية. إنه مشهد يؤكد أن من قال: “الكلام أقوى من الرصاص” لم يكن يسفطط، لذا فعندما يسكت الرصاص وتنفد الذخيرة، أو تباع الأوطان، تبقى الكلمة الحق فصلاً، وتبقى الفكرة، وتبقى الطموحات بوطن حر، ودولة مواطنة، تحفظ حق الحياة الكريمة للجميع بدون استثناء.
بعد كل هذه التضحيات لا يجب على السوريين ترهيب أصحاب الأقلام، حتى لو فضحوا الحقيقة عارية، ولا يجب على أصحاب الأقلام الخوف من إثارة غضب الشعوب، بتكسير أصنامها وتابوهاتها، وبالتالي محاباتها. الصحيح هو أن كل في موقع مسؤولياته، والحرب بين الديمقراطية والشمولية هي حرب تبدأ بذواتنا ولا تنتهي بين الدول. إن الفقراء ما زالوا يموتون، والنخبة التي تجلس في أماكن آمنة، لم تضطلع بمسؤولياتها الحقيقية حتى اللحظة.
لن نستغني عن أفكارنا، وعن مبادئنا، لصالح الأجندات. إن بقع الضوء التي أنتجتها الثورة السورية، عكرت وتعكر وستبقى الليلَ الذي يحاول الجميع فرضه على السوريين، وإن أسمى ما يمكن للصحفي ممارسته، هو نقل الحقيقة؛ له أم عليه، بما لا يزرع الفتنة بين الشعوب، أو الحروب بين الأخوة، فالكلمة مسؤولية كبيرة قلّما يدرك حجمها ممارسو الشتيمة والتخوين والكذابون.
رحل جيش الإسلام، وتعود اليوم صحيفة طلعنا عالحرية ولسان حالها يقول إنها غير قابلة للاندثار.
هل سمع أحدكم برصاصة غاشمة اغتالت فكرة جيدة.
نبيل شوفان صحفي سوري عمل في العديد من التلفزيونات والإذاعات العربية والسورية وله مقالات رأي وتحقيقات استقصائية في العديد من الصحف