عندما أدرك رئيس الفرع “غازي كنعان” أن هناك خطأً ما، سحب السجين “محمد برّو” من أذنه بشدة وعاد به إلى حجرة القاضي عام 1980 ليقول:
“ابن القحبة هذا ما يزال حَدَثاً، ولا يجوز عليه حكم الإعدام لأنه لم يبلغ الثامنة عشرة”.
تمّ تخفيف الحكم من الإعدام إلى عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، وعاش محمد برّو ابن السابعة عشر عاماً إلى اليوم، ولكن ليس قبل أن يمرّ بثمان سنين من الجحيم الأرضيّ في سجن تدمر في الصحراء السورية.
محمد برّو اليوم من ألمع وأجمل المثقفين السوريين المقيمين في اسطنبول، كاتب غزير في العديد من المواقع، وموثّقٌ أمين سيدخل التاريخ بكتابه الذي سجّل فيه يوميات من انتهى بهم الحظ للعيش أو الموت في سجن تدمر، الذي أشرف عليه حافظ ورفعت الأسد، وأعوانٌ لهما من عصابةٍ عائليّةٍ وطائفية تمكّنت من رقاب السوريّين باسم الدولة.
السفر عبر صفحات كتاب “ناجٍ من المقصلة” لمحمد برّو الصادر عام 2020 هو رحلةٌ في الخراب. صحيحٌ أن الخراب في سوريا واسعٌ مكانياً، من القامشلي للجولان، وزمانياً، منذ عام 1963 وحتى اليوم، لكن تجربة محمد برّو ورفاقه في سجن تدمر هي خرابٌ مكثّف، هي ظلم وقهر ملايين السوريين يتجرعهما إنسانٌ واحدٌ دفعةً واحدة وفي مكانٍ واحد.
لم يشفع لمحمد برو أنه كان ما يزال طالباً في الثانوية يوم تداول مع رفاقه جريدةً ممنوعة؛ فعصابة حافظ الأسد كانت في معركةٍ دامية مع عصابةٍ أخرى هي جماعة الإخوان المسلمين، وما برحت العصابة الأولى تبحث عن أفرادٍ ممن يمكن حسبانهم على العصابة الثانية (حتى وإن زوراً) حتى تسومهم سوء العذاب وتنتقم منهم وتجعلهم عبرةً لمن وراءهم. وقع المسكين محمد برّو ضحية تلك الدوامة من الكراهية الطائفية المتبادلة، مع أنه لم ينتمِ للإخوان المسلمين، ولم يحمل فكرهم، ولم يكن يعرف يوم التقط جريدتهم، جريدة “النذير” من مدخل بنايته أنها أخطر من قنبلة، وأنها ستسوقه إلى عشر سنين من السجن بلا ذنبٍ ولا خطيئة.
في سجن تدمر، وقع محمد ضحية انتقامٍ تنزله عليه سياط مجرمين وحاقدين لا يرون الوطن والمواطنين إلا من خلال طاقةٍ طائفية ضيّقة. لم يكن يفهم بداية الأمر؛ لماذا صار اسمه عند الجلادين “أبو بكر” تارةً، و”عمر” تارةً أخرى! احتاج الأمر منه شهوراً ليدرك أن القضية بالنسبة للجلّادين ومن وراءهم لم تكن جريمةً سياسية ارتكبها في حقّ الوطن، بل قصة كراهيةٍ طائفية كان على الغلام أن يحمل تبعاتها كما حمل المسيح صليبه. تلقى محمد حفلات تعذيب يومية على مدى ثمان سنوات، واسترق النظر إلى مشاهد الإعدام الشهيرة في ساحات السجن الصحراوي النائي عن العالم.
لقد جسّد محمد من خلال تجربته محنة كل إنسانٍ قدّر له أن يولد في سوريا في ظل حكم الأسد الأب أو الابن؛ فالولادة في بلدٍ تحكمه عصابة هي رأس المحنة ومبتدؤها بالنسبة لأي إنسانٍ له نوازع طبيعية نحو العدالة والحريّة. وما كل نجاة من حبسٍ أو تعذيبٍ أو قهر إلا من طوالع الحظ التي لم ينلها محمد، الذي عبَر تدمر، وعاد لنا بالحكايات؛ لعلّنا نذّكر فلا ننسى أننا نعيش كلنا في الخراب، حتى وإن لم ندخل السجن، وأن في سوريا التي ولدتْ مريضةً قبل مئة عام لا توجد دولة، وإنما عصابةٌ تمارس الجريمة المنظّمة.
وما أحداث ثورة الكرامة منذ عام 2011 حتى اليوم، وما تلاها من تدميرٍ شاملٍ للأرض والإنسان في سوريا، إلا تصديق على تجربة محمد برّو، وتأكيد على أن المقصلة ما تزال تتربص بكلّ السوريين ما لم يحصل التغيير المطلوب في بلدهم.
خرّيج قسم اللغة الإنكليزية – جامعة دمشق. حاصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة البعث في حمص، كاتب ومترجم من أعماله:
الفارس المزيّف- مجموعة قصصية.
أمريكا الامبريالية- (ترجمة عن الانكليزية)
عمل خلال الثورة السورية ناطقاً باسم لجان التنسيق المحليّة ومراسلاً لقناة أورينت وموقع كلّنا شركاء.
وفي عام 2014 عمل مراسلاً في وكالة مكلاتشي الأمريكية من اسطنبول.
يقيم الحمّادي في فرنسا منذ أواخر عام 2019 ويعمل ككاتبٍ وصحفي مستقلّ.