Site icon مجلة طلعنا عالحرية

“راح رحيّم راح كبيري” / ميساء حمّادي

freedom55--12

كيف عَلم والدا ناظم حمّادي بحادثة خطف ابنهما

ميساء حمّادي

لم يستقبل أبي وأميّ خبر اختطاف ابنهما ناظم بطريقة عادية، كأن يتصل بهما أحد إخوتي ويخبرهم بما حدث له ولبقية زملائه، أو يخبرهم أحد الجيران أو الأصدقاء. فقد ارتأينا جميعاً إخفاء الموضوع عنهما ريثما نتوصل إلى طريقة لمعرفة مكانهم أو ربما ليتمّ الإفراج عنهم بعد أيام قلائل. ولكن، وعلى غير العادة شاءت الصدفة أن يعود التيار الكهربائي تلك الليلة إلى قريتنا الصغيرة الواقعة في ريف إدلب، بعد انقطاع دام أشهر!! هرول أبي لسماع الأخبار، حيث كان وأميّ يتسامران عادة في ظل عدم وجود التلفاز والكهرباء.

أبي كانت لديه مشكلة في سمعه منذ الصغر، وما أن أشعل التلفاز حتى رأى خبراً عاجلاً مفاده: (اختطاف الناشطين: رزان زيتونة ووائل حمادة وسميرة الخليل وناظم حمادي)… كان وقع الخبر عليه كالصاعقة حيث التفت بوجهه الشاحب نحو أمي التي سمعت الخبر لعدم قدرتها على القراءة، وكأنّه نسي أنها تسمع وقال لها بلهجته القروية (خطفوه يا حجة لناظم) فجاوبته أمي بنفس اللهجة (شو متوقع يضلوا تاركينوا لهلأ بالغوطة؟ طفيّ التلفزيون شو بدك تشوف لسى). وأطفأه وجلسا على أريكة صغيرة وصمتا كأن سنينهم السبعين تمر أمامهم. فقد كانت أمي تقول دائماً “لا أذكر أيامي قبل ناظم فكأنّه معي منذ ولدت”.

بعد سماع الخبر بدأت رحلة عذابهما غير المنتهية، حيث أصبح أبي بعد الحادثة يجلس يومياً في ساحة القرية ينتظر الحافلة الوحيدة التي كانت تصل قريتنا النائية بدمشق، وما إن تصل حتى يبادر فوراً إليها ويسأل السائق “ما سقط لسى؟ ما وصلوا على الشام؟ طيب ما لقوا ناظم؟” فيجيبه السائق بوجهه المرهق من السفر بالنفي غير آبه مرات، فلديه من الهموم ما تنسيه أننا في ثورة أصلاً.

ويعود ليتكرر ذلك المشهد يومياً وأمي تجلس على الشرفة تنظر إلى البعيد لكنها لا ترى شيئاً، بل تعيد شريط ذكرياتها، فقد كان كبيرها وصديقها وكانت تلقبه في الوقت نفسه بلقب (رحيّم) نسبة إلى “يحيى الفخراني” في إحدى مسلسلاته. فقد كان أيضاً الكبير ودائماً ما كان يعود ليبكي على قدمي أمه، وهذا ما كان يفعله ناظم أحياناً. فتذكره وتبكي وتقول: “راح رحيّم راح كبيري”.. ونحن –أولادها وأخوات ناظم- عاجزون تماماً عن مواساتهما أو فعل أي شيء يخفف عنهم ويوقف تسلل المرض خلسة  إلى جسديهما المتعبين والمنهكين أصلاً.

بعد الحادثة بحوالي العام بدأ أبي يشكو من آلام شديدة في صدره وبدا كأنّه يزداد خوفاً وسؤالاً عن ناظم، عرضناه على أطباء كثر في إدلب ليجمعوا على أنّه مصاب بسرطان الرئة وبات في أيامه الأخيرة.. تمنيت حينها لو يراه خاطفو ناظم لدقيقة واحدة “لتعود” الإنسانية إليهم، فرجل هرم مثله ينظر بعينيه النصف مفتوحتين ويمشي بقدميه المرتجفتين من المرض لا يكفّ عن السؤال عن ولده علّهم يعيدوه إليه ليغمض عينيه ويريح جسده أخيراً وهو مطمئن بأن لنا كبيراً بعده يأتمنه علينا. لكنها بقيت أمنية فهؤلاء ماتت الرحمة في قلوبهم.

تأزمت حالته كثيراً بعد ذلك فاضطررنا لنقله إلى دمشق تحت اسم مستعار بعدما كشف الإعلام عن اسم ناظم الكامل وتفاصيل نشاطاته المتعلقة بالثورة، حيث مرت الرحلة بسلام وتولى أحد أصدقاء ناظم استقبال الوالدين وتأمين سكنهما في أحد  البيوت التي سكنها ناظم سابقا، ولكنه أخفى عنهما ذلك خوفاً على تأثّر أبي، فنحن في مصيبة كبيرة حيث بدأنا نشعر بأن وضع الوالد يزداد سوءاً. وعندما كان أبي يشعر بالتحسن قليلاً بواسطة الأدوية المسكّنة كان ينزل ليمشي في شوارع دمشق بعد فراق سنتين ليرى نفسه غريباً ويعود إلى البيت، فتسأله أمي: ليش رجعت؟ مو مشتاق للشام؟ مو مشتاق تشوفها؟ فيجيبها بصوته المجهد: “ما هي هي الشام يا حجة ما عم أعرف الشوارع خفت ضيع رجعت” …

لم يمضِ شهرٌ على أخذ والدي (الجرعات الكيماوية) حتى تعرّض لشلل دماغي وفقد حاسة النطق، وذات يوم كان ينظر إلى أرجاء البيت بعينيه، ربّما كان يتمنى أن يرى ناظم متجولاً حوله.. لكنه فارق الحياة في فجر الثاني عشر من شهر كانون الثاني 2015 بينما كانت أمي جالسة بجانبه وهي ترى آخر كبير لها بالعائلة قد تركها إلى الأبد.

عادت أمي به جثة إلى القرية، وتركت وراءها الشام جثة أيضاً، ولم يعد يعنيها ماذا سيحل بها أو متى ستعود فلا شيء فيها يشعرها بالحنين، فقد ودّعت في دمشق ليلتها تلك أبي وعمرها. وعادت لتجاور المقبرة كل يوم، وتستيقظ كل صباح لتخبر أبي بأن الحرب لم تنته، ولم يعد ناظم بعد.

Exit mobile version