ياسمين نهار
حظيَ المسرح منذ أقدم العصور بأهميّة كبرى؛ نظراً لجماهيريّته الواسعة، وتأثيره الاجتماعيّ الكبير. صحيح أنّ لفنّ السّينما الذي ظهر في نهايات القرن التّاسع عشر طابعاً جماهيريّاً، لكن استيعاب المسرح لعدد كبير من النّاس مختلفي الاتّجاهات والاهتمامات والمستوى الثّقافيّ وتفاعل الجمهور مع ممثّلين من لحم ودم جعل تأثير المسرح مباشراً وسريعاً؛ ذلك أنّ المتفرّج يرى الممثلين وتعابير وجوههم، ويسمع أصواتهم واختلاف نبراتهم ممّا يخلق حالة من التعاطف والاندماج مع ما يحدث على الخشبة؛ لذلك رأى الشّاعر والنّاقد المسرحيّ الفرنسيّ “أنتونين آرتو” أنّ المسرح ظاهرة مُعدية، تنهار أثناء العرض الحواجز بين الخشبة والصّالة، بين الجمهور والممثّلين، بين الواقع والتّمثيل؛ فلا غرابة إذاً أن ينتقل أثر الخشبة إلى الجمهور. في ضوء هذه العلاقة الجدليّة بين خشبة المسرح والجمهور لم يعد مقبولاً أن ينزويَ الجمهور في صالة معتمة يتلقّى العمل دون إبراز أيّ ردّة فعل؛ بل أصبح طموح المسرحيّين مسرحاً يبني الإنسان ويساهم في تغييره؛ ولتحقيق التواصل الفعّال بين الخشبة والصّالة كان بعض المخرجين يقومون بوضع ممثّلين بين الجمهور يحاورون ممثلي الخشبة المقصود من هذه التّقنية تنبيه المتفرّجين إلى الحالة المثلى التي ينبغي أن يحقّقوها. أمام الدّور الكبير للمسرح يمكننا أن نوجز بعض النّقاط التي تقف حجر عثرة أمام أيّ انطلاقة حقيقة للمسرح وهي:
1 – اعتبار المسرح وسيلة نضال وتعبئة:
إنّ ما أفرزته المرحلة السّابقة أو حتّى المرحلة الرّاهنة من قتل وحروب ودمار وتهجير لا يسوّغ الدّور التّحريضيّ للمسرح وحين يركن المسرح إلى معالجة القضايا السّياسيّة يصبح مجرّد نقد ساخر، وعرض آنيّ يزول بزوال الحدث المحرّض؛ لأنّ المسرح السّياسيّ يميل إلى المباشرة والدّعاية الأيديولوجيّة، ويبتعد عن الأشكال المسرحيّة النّاضجة التي تطوّر الفرد وتعمّق نظرته إلى نفسه وإلى غيره، وهنا لا بدّ من التأكيد على ضرورة انفصال المسرح عن الأيديولوجيا؛ لأنّ الأيديولوجيا تطمس الشّكل الفنيّ للعرض، وتبقي الجمهور ضمن إطار سطحيّ نمطيّ؛ لذا وجب على صانعي العرض المسرحيّ والمهتمّين به أن يحرّروه من أحاديّة المنظور؛ ليمارس دوره في الكشف والتّغيير وهذا ما ذهب إليه المخرج المسرحيّ والكاتب الدراميّ غسّان الجباعي حين قال: “فلا أظنّ أنّ للفنّ والثّقافة -بعامة- وظيفة تبشيريّة أو تعليميّة أو (تسييسية)! لأنّ وظيفته موجودة فيه، في جوهره، في البحث الدّائب عن الجمال الكامن في الإنسان والمجتمع والطّبيعة والفنّ -بالضرورة- حارس للقيم العليا للإنسانيّة وملتزم بالدّفاع عنها: حقّ الحياة والحريّة والكرامة والعدالة والحبّ والمساواة والتّعبير والمشاركة، وكلّ القيم الأخلاقيّة التي ناضلت البشريّة من أجل تكريسها -عبر مسيرتها الطويلة-، محوّلة ذلك الوحش البدائيّ إلى إنسان متحضّر، والتي تعتبر اليوم قيماً وحقوقاً من حقوقه الأساسيّة والمكتسبة”.
وانطلاقاً من هذا المبدأ نطمح أن يضيء المسرح جوانب من الوجود الإنسانيّ ويعمّق فهمنا للإنسان والعالم بأبعادهما الفيزيقيّة والميتافيزيقيّة بعداً عن (القفشات) التي اعتمدها المسرح السياسي في مراحل سابقة ولا وظيفة لها إلّا تخدير الجمهور والتّنفيس عن معاناته. ولن يحقّق المسرح دوره الرياديّ إلا حين يسمو فوق الصّراعات الأيديولوجيّة، ومجريات الحياة اليوميّة، ويتوجّه إلى وعي الإنسان بوصفه كائناً قادراً على تغيير ذاته وتطويرها باستمرار.
2 – المسرح والرّقابة:
يعاني المسرح وغيره من الفنون من هيمنة مؤسّسات الدولة على نشاطاته؛ بدءاً من تشجيع الأعمال الهزيلة سريعة الرّبح البعيدة كلّ البعد عن القضايا الجوهريّة التي تؤرّق الإنسان، وليس انتهاء بمنع عرض الأعمال الجادّة الناقدة. من المؤكّد أنّ الأنظمة الاستبداديّة تعلّم مدى تأثير التلفزيون والمسرح والسّينما نظراً للجماهيريّة الواسعة التي تحظى بها هذه الفنون؛ لذا جعلتها وسيلة من وسائل تغييب وعي الجمهور والسّيطرة عليه، ولابدّ من تأكيد ضرورة امتلاك أقطاب العمل المسرحيّ (المؤلّف، المخرج، الممثّل، الجمهور..) حريّة التّفكير والتّعبير لكي يحقّق العرض المسرحيّ صفة الدّيمومة والتّأثير البعيد.
3 – قلّة النّصوص القابلة للتجسيد:
غير خافٍ علينا الأهميّة الكبرى للنّصوص المسرحيّة بوصفها مادّة أدبيّة قابلة للقراءة يمكن أن نضيفها إلى تراثنا الأدبيّ، إلّا أنّ مسرحنا يعاني من قلّة النصوص القابلة للتجسيد على خشبة المسرح؛ فنحن لا نريد أن ينهض المسرح بوصفه نصّاً أدبيّاً -رغم أهميّته- قابلاً للقراءة فقط، بل نريده فنّاً قابلاً للتمثيل على خشبة المسرح يؤثّر في النّاس؛ لأنّ التّطوّر نتاج متناقضات متصارعة، وتقابُل بين قيم مختلفة وهذا ما يحقّقه المسرح بسبب وجود الصّراع الذي يعدّ الشّريان المغذّي لأيّ عمل مسرحيّ يدفع الأحداث ويطوّرها، فإذا لم يكن الصّراع قويّاً وصاعداً ومستمرّاً طوال مدّة العرض فَقَدَ العرض جاذبيّته وقدرته على التّأثير.
4 – موت الكاتب المسرحي:
ومن اللّافت للنّظر أنّ عدداً كبيراً من المخرجين انصبّ اهتمامهم في الآونة الأخيرة على الإبهار البصريّ أكثر بكثير من اهتمامهم بالنّصّ المسرحيّ القويّ.
صحيح أن الوسائل البصريّة تساعد الممثّل على أداء دوره وتسهّل فكرة العرض لكن يجب ألّا تكون هذه الوسائل على حساب النّصّ المسرحيّ؛ لذلك لم يعد غريباً انتشار مصطلح “موت الكاتب المسرحي” بين المسرحيّين ونقّاد المسرح، وهو مصطلح بعيد كلّ البعد عن مقولة “رولان بارت” “موت المؤلف” التي لا تعني معناها المباشر؛ وإنّما تعني تحرير النّصّ من سلطة المؤلّف، وإفساح المجال للقارئ ليكتشف دلالات جديدة للنّص، بهذا الفهم تتخذ عبارة “موت المؤلّف” معنىً إيجابيّاً لأنّها تعني ولادة قراءات جديدة ومتنوّعة للنّصّ تنوّع القرّاء وتعدّدهم.
أمّا “موت الكاتب المسرحيّ” فتتخذ معنى سلبيّاً وتعني تراجع النّصّ المسرحيّ القويّ أو توقّف الكتابة المسرحيّة التي من أهدافها التّصدي للمواضيع والقضايا التي تؤرّق الإنسان وتشغل تفكيره.
5 – رفض بعض الكتّاب أيّ تعديل على نصوصهم:
ثمّة مشكلة تواجه العروض المسرحيّة رغم وجود النّصّ المسرحيّ القويّ أحياناً، وهي رفض الكاتب المسرحيّ أيّ تعديل أو تحوير في نصّه، ممّا يحرم المخرج تحقيق رؤيته الإخراجيّة الموسّعة لأبعاد النّصّ.
حين يتنازل المؤلّف عن “قدسيّة نصّه” يصبح العرض عمليّة تشاركيّة بين المؤلّف والمخرج والممثّلين. وهنا يحقّ للبعض أن يتساءل لماذا يذهب النّاس إلى المسرح إذا كان بإمكانهم قراءة النّصّ في البيت؟! يمكننا القول إنّ النّاس يذهبون إلى المسرح من أجل مشاهدة الممثّل الذي لا يقلّ إبداعاً عن إبداع مؤلّف النّصّ، لأنّ الممثّل لا يكتفي بأداء الدّور الموكل إليه بصورة آلية بل يضيف إلى الحوار ويطوّر دوره وذلك عن طريق الاستفادة من الملاحظات الإخراجيّة، والملاحظة الشّخصيّة لأشخاص يوجد تقاطع بينهم وبين الدّور الموكل إليه. بيد أنّ الممثّل الحقيقيّ لا يكتفي بالأمرين السّابقين بل يطوّر أداءه عن طريق قراءة ما بين السّطور ليمنح الدّور بُعداً جديداً؛ لذا وجب أن يكون الممثّل مثقّفاً وموهوباً ليقنع المتفرّجين الذين تكبّدوا عناء الذّهاب إلى المسرح، وليملأ الفراغات التي تركها كلّ من الكاتب والمخرج؛ ويتمّ ذلك وفق حالات يقتضيها السّياق الدّراميّ وتطوّر الصّراع، حينها يستطيع كاتب النّصّ أيضاً تعديل نصّه بعد كلّ عرض حسب ردّة فعل الجمهور وما يبديه من استحسان أو استهجان أو إعجاب أو رفض لأيّ فكرة تُعرَض.
صحيح أنّ الكاتب المسرحيّ يعبّر عمّا يريد إيصاله عن طريق الكلمة لكن يجب ألّا تغيب خشبة المسرح عن تفكيره أثناء الكتابة أو أثناء إجراء أيّ تعديل على نصّه.
وفي الختام نقول إنّ النّاس يزداد إدراكهم لقضاياهم ويتعمّق وعيهم لها حين يرونها مرئيّة أو مسموعة أمامهم شريطة أن يصوغها الكاتب المسرحيّ بقالب فنيّ عميق وممتع بعيداً عن الواقع الآني المباشر، أو النفق السّياسيّ الضّيّق.
النّمطيّة سجنٌ.. الأيديولوجيا سجنٌ.. أمّا الإنسانيّة بتنوّعها واختلافها وصبوتها إلى الانعتاق عليها أن تبقى هاجس صانعي المسرح والمهتمين به.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج