مجلة طلعنا عالحرية

دولة الثقب الأسود / ماهر مسعود

83979-640_108108_large

حدد جون لوك في انكلترا ومونتسكيو في فرنسا منذ القرن السابع عشر “ثوابت الدولة” بالسلطات الثلاث المعروفة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي يجب أن تنفصل، ومن ثم تتكامل مع بعضها، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي ونوعه. ثم جاء هيغل فيما بعد ليجعل من الدولة الكيان العقلاني الذي يحقق روح الحرية وأرفع تجليات الفكرة المطلقة، ومن ثم أقرَّ ماكس فيبر نقدياً بأن الدولة هي الكيان المحتكر لشرعية العنف والإكراه، حيث إن احتكار شرعية العنف يتيح للأفراد تجاوز ما أسماه هوبز “حرب كل إنسان ضد كل إنسان آخر”.

كان ذلك أثناء نشوء وبناء الدولة الأمة في أوروبا، لكن بعد “غربلة” الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، أصبحت الديمقراطية جزءاً مؤسِّساً في أنظمة الدول الحديثة من حيث هي نظام لإدارة التنازع يسمح بالتنافس الحر على القيم والأهداف التي يحرص عليها مواطنو الدولة كما أكد توكفيل منذ ما يقارب المئة والسبعين عاماً.

نظرياً واجرائياً يمكننا تقسيم الدولة إلى ثلاثة مكونات رئيسة هي: المجتمع السياسي، والمجتمع المدني، والمجتمع الأهلي، لا بد أن تخضع جميعها للقانون ذي المرجعية الدستورية إذا أردنا أن نتحدث عن شرط الدولة بمعناها الحديث.

المجتمع السياسي: تمثله السلطة السياسية المتغيرة لكن القائمة على ثوابت الدولة، وهي الجيش والشرطة أو الدفاع والداخلية، ثم القضاء، ثم البرلمان مع ملحقاته الوزارية.. ممثلي السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية على التوالي. إضافة للأحزاب السياسية التي يمثل وجودها وتنافسها على التداول السلمي للسلطة حيوية المجتمع السياسي.

المجتمع المدني: تمثله المؤسسات؛ الحكومية وغير الحكومية، المنظمة لكن غير السياسية، بمعنى انفصال حقلها عن حقل السياسة المباشر. ومؤسسات المجتمع  المدني، بما تعنيه من نقابات وهيئات ومنظمات حقوقية وجامعات وصحافة وإعلام ودور عبادة.. هي مناهضة بمعنى ما، أو منافسة لمؤسسات المجتمع السياسي، حيث إن مهمتها الأساسية هي الحدّ من سلطة الدولة، ومراقبة تدخلها وتجاوزاتها بحق المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، وكلما كانت مؤسسات المجتمع المدني أقوى وأكثر استقلالية، كلما كان الوضع السياسي أكثر صحة والنظام السياسي أكثر ديمقراطية.

المجتمع الأهلي: وهو مجمل مكونات الدولة في حالته “الطبيعية” غير المؤسسة وغير المنظمة، بما يشمل ذلك من مكونات دينية أو مذهبية أو طوائفية أو عرقية أو قومية في حالتها غير السياسية، حيث يكفي أن تصبح تلك المكونات سياسية أو تُرفع إلى حيز السياسة والتنظيم السياسي، كي تتحول الدولة ذاتها إلى دولة طائفية أهلية محكومة بالصراع الطائفي والأهلي؛ الواضح أو المخبوء. كما يكفي للنظام السياسي في أي دولة أن يعمل على التمييز والتمايز الطائفي كي يرفع الطوائف من حالتها الأهلية إلى حيز السياسة، ويتحول إلى نظام طائفي أقلوي حتى لو كان الحاكم من الأكثرية الثقافية، فالأقلية والأكثرية؛ التي تعني أقلية وأغلبية سياسية في المجتمع السياسي، تصبح أكثرية وأقلية اجتماعية مُسيَّسة، وتصبح سياسة الدولة ذات طابع أهلي بطريقة مضادة للشعب، ومناقضة لمفهوم الشعب، المؤسس للدولة بمعناها الحديث.

“دولنا” التي لم تفلح في النشوء إلا بعد الحرب العالمية الثانية وتصفية الاستعمار، لم تأخذ من عناصر الدولة الحديثة إلا الاسم والشكل والصفة؛ مضافاً إليها احتكار شرعية العنف والاكراه. ولكن أيضاً بعد سحب قانونية العنف ليصبح عنفاً سلطوياً محضاً، وإكراهاً لا عقلانياً للمجتمع وأفراده ضد كل عقد اجتماعي أو دستور سياسي محتمل في الدولة العقلانية الحديثة.    كما تجسد الدولة العربية الراهنة إلى حد كبير، التجلي السياسي لظاهرة “الثقب الأسود” الفلكية، حيث تشكل السلطة التنفيذية ثقباً أسود، يحوّل المجال الاجتماعي المحيط به إلى ساحة لا يتحرك فيها شيء ولا يفلت من إسارها شيء، فالمركزية المتزايدة في الجهاز التنفيذي والمُضمّنة في النصوص الدستورية للدولة، تمنح رأس الدولة صلاحيات شبه مطلقة، باعتباره الرئيس الأعلى للجهاز التنفيذي ولمجلس الوزراء، وللقوات المسلحة، وللقضاء، والخدمة العامة…الخ.

ولذلك فإن أنظمتنا السياسية التي توارثت السلطة منذ الاستقلال، استطاعت أن تجعل من الدولة عدو المجتمع وعدو الأفراد، عندما جعلت من الدولة هي “دولة السلطة”، وقلّصتها في الجهاز التنفيذي القابع تحت سيطرتها، بل إن هيكل الدولة؛ الذي يفترض أن يكون الثابت أمام تبدلات وتحولات النظام السياسي المتغير، بات هو المتغير أمام ثبات النظام السياسي المتوارث وغير القابل للتغيير. ولذلك نرى اليوم وبالعين المجردة، كيف أن انهيار النظام السياسي يؤدي بشكل دراماتيكي إلى انهيار الدولة. ذلك ما رأيناه في العراق سابقاً ونراه اليوم بطريقة مأساوية في سوريا وليبيا واليمن، كما أن استعصاء الأنظمة السياسية على النحو الحاصل لا ينبئ بحال أفضل للدول التي لم تطالها رياح التغيير بعد، فاختصار الدولة بنظامها السياسي، واختزال النظام السياسي بشخص الحاكم، ليس أكثر من وصفة مثالية للخراب، خراب الدولة وخراب المجتمع وخراب السياسة، وليس أكثر من صناعة قهرية للانحطاط وطريق معبد بالوضاعة نحو الجحيم والموت والفوضى، هو كذلك حال انحطاط الأنظمة وحال وضاعتها. ولذلك لا يمكن لشعوبنا أن تتنفس هواء الحرية، أو تصنع دولها القابلة للحياة، أو تجعل من حريتها ممكنة ضمن إطار الدولة، إن لم تغير أنظمتها وترميها في مزابل التاريخ، حيث إن ما فعلته تلك الأنظمة في شعوبها، لا يمكن إدراجه إلا في خانة الجرائم الموصوفة ضد الإنسانية، وضد الدولة وضد التاريخ.. وضد حياة البشر في بلادنا.

Exit mobile version