“مضايا”، اسم بلدة سورية باتت معروفة على مستوى العالم بعد الحملات الإعلامية الأخيرة. الحصار الذي استمر لشهور عديدة لم يحرك العالم إلا بعد وقوع كارثة إنسانية قضى فيها عدد من سكان البلدة نتيجة للجوع ونقص التغذية، لتنطلق بعدها العديد من الحملات، منها إعلامية ومنها لجمع التبرعات، وأعلن البعض عن حجم المبالغ التي تم جمعها بينما تحفظ آخرون، كما تم توجيه العديد من الرسائل والتقارير من قبل ناشطين ومعارضين ومؤسسات إنسانية والتي شكلت ضغطاً على العديد من الحكومات مما دفع كل من نيوزلندا وإسبانيا وفرنسا للدعوة إلى جلسة خاصة في مجلس الأمن، كما تحركت الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر ليتم لاحقاً الحصول على موافقة من النظام السوري لإدخال المواد الإغاثية. ورغم أن هذا التحرك هو من طبيعة عملهم والتي لا تحتاج إلى حملات إعلامية ومطالبة وضغط من قبل أي جهة، إلا أنه بات من الواضح أن العملية الإغاثية تمت على غرار نتيجة التفاوض الأخير بين حزب الله وجبهة النصرة، في الوقت الذي تم تجاهل بقية المناطق المحاصرة في الغوطة الشرقية والغوطة الغربية ودير الزور وغيرها، مما يثير الكثير من الشكوك حول التحركات الأخيرة الخالية من أي مساع لفك الحصار، والاكتفاء بإدخال بعض الشحنات من المساعدات الغذائية والطبية وبعض المستلزمات.
الحراك الأخير رغم ضرورته القصوى، إلا أنه بات يكرّس استراتيجية الرمق الأخير، حيث لا نلاحظ أي تركيز إعلامي أو ضغط إلا بعد وقوع الكارثة. وعلى اعتبار أنه من الطبيعي أن يتفاعل عامة الناس في المجتمعات بشكل أو بآخر في اللحظات التي تلي الكارثة كونه رد فعل ناتج عن مشاعر لحظية، إلا أنه من المعيب استخدام هذه الاستراتيجية من قبل مؤسسات المعارضة السورية ومنظمات المجتمع المدني المستحدثة بعد اندلاع الثورة السورية؛ فالعديد منها يفتقد إلى التخطيط الاستراتيجي، فلا نسمع عن حملات التبرع إلا بعد وقوع الحدث، كما تمّ سابقاً -بعد كارثة مجازر الكيماوي في الغوطة الشرقية- عدد كبير من الحملات التي حصدت مبالغ مالية كبيرة لتمويل مواد طبية وأقنعة واقية من الغازات السامة لمساعدة المناطق المتضررة من الضربات الكيماوية. وفي مثل هذا الحدث، قد يجد البعض مبررات لتحركهم بعد الحدث يتذرعون بها بصعوبة التنبؤ باستخدام مثل هذا النوع من السلاح.. رغم أنه من المعروف عن النظام السوري امتلاكه لأسلحة كيماوية، وأن من الممكن أن يستخدم كل شيء في حربه حتى وإن كان محرم دولياً.
وقد يتوضح أكثر أن (استراتيجية الرمق الأخير) ليست حكراً على مناطق محاصرة أو مناطق تعاني من ويلات الحرب فقط، وأكبر دليل على ذلك هو التجربة السابقة التي عاشتها مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان جراء العاصفة الثلجية؛ فهذه المخيمات لا تخضع لحصار مطبق، ومن الممكن الوصول إليها بسهولة، ويوجد في لبنان عدد كبير من المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية.. ورغم توفر كل المعلومات الكافية، بداية من التنبؤ بالعاصفة، وصولاً إلى توفر كافة المعلومات عن الاحتياجات الضرورية للاجئين في المخيمات، إلا أن حملات جمع التبرعات والتحرك لإغاثة المحتاجين لم تتمّ إلا بعد وقوع الكارثة ووفاة عدد من الأشخاص!
وبعد أن استعرضنا قدراً بسيطاً من الأمثلة عن حالة الشلل المطبق في التخطيط للتعامل مع هذه الكوارث، بات من المشروع التفكير بجدوى وجود هذه المؤسسات وعملها؛ بداية من المنظمات الإغاثية التي يصرف عليها ملايين الدولارات سنوياً تحت عنوان “إغاثة الشعب السوري”، وصولاً إلى الأمم المتحدة التي تظهر منذ بداية الثورة السورية وكأنها عاجزة في بعض الأحيان.. ومساهمة في الكارثة في أحيان أخرى، حيث لا توجد مؤشرات واضحة لتطبيق ميثاق الأمم المتحدة، الذي لن أقتبس نص الديباجة الخاص به، لأنه سيبدو مثل نكتة مثيرة للسخرية أمام معاناة الشعب السوري.
ورغم أن جميع المؤشرات تنذر بعدم وجود نوايا لإيقاف سياسة الحصار والتجويع، ولا توجد مؤشرات واضحة لدى الأمم المتحدة لإلزام النظام السوري بوقف حصار المدنيين، إلا أنه بات من الضروري على المعارضة السورية ومؤسساتها ومنظمات المجتمع المدني إيجاد خطط استراتيجية تتناسب مع أهداف مواجهة الكوارث وحل المشكلات على المدى المتوسط والطويل الأمد. ليس ذلك فحسب، بل أنه بات عليهم توحيد جهودهم المشتتة ضمن مشاريع مشتركة، سواء على مستوى الحملات الإعلامية الموجهة أو على جبهات الإغاثة، إضافة إلى الضرورة الملحّة لتشكيل ضغط كبير على المجتمع الدولي.
على صعيد الإغاثة تحديداً، لم يعد من المجدي الاكتفاء بجمع التبرعات وتجهيز صناديق غذائية لتوزيعها، فهذه العمليات تعتبر إسعافية ولا طائل منها على المدى المتوسط على أقل تقدير. ومن الأجدر البدء بالتحضير لأعمال ومشاريع صغيرة مستدامة كدعم الزراعة وتربية الحيوانات. ورغم وجود بعض المبادرات الخجولة هنا أو هناك، إلا أنها تبدو غير مدروسة ولا تشكل فارقاً ذا أهمية استراتيجية.
أما على الصعيد الإعلامي، فكل يعمل وفق منظور مختلف كلياً عن الآخر دون تعاون، بالإضافة إلى أن الحملات الإعلامية ما زالت مرتبطة بما بعد الحدث، ومن الأجدر أن يتم استباق الحدث من خلال المعطيات المتوفرة للحؤول دون وقوع الكارثة.
مضى خمس سنوات على انطلاق الثورة السورية وآن الأوان للتخلي عن استراتيجية الرمق الأخير واستبدالها بالتخطيط المستدام.
مستقل، مهووس في تكنولوجيا المعلومات والأمن الرقمي. مهتم في الشؤون الاقتصادية وريادة الأعمال، محرر القسم الاقتصادي في طلعنا عالحرية