تتعرّض العلاقة القائمة بين النظام السّوريّ وبين أهالي “محافظة السويداء” السّوريّة ذات الأغلبية الدرزيّة لتداعيات استراتيجيّة هامّة. وترتكز هذه التداعيات إلى نقطتين على الأقل وهما: انعدام الثقة بالنظام السّوريّ من قبل الأهالي، وتبديد هيبته تدريجياً في المحافظة على مدار ما يزيد على أربع سنوات ونصف.
وبعدما تعرّضت هذه المحافظة إلى تفجيرين إرهابيّين غير متزامنين، يفصل بينهما ساعة تقريباً، وغير متوقّعين. وذلك عصر يوم الجمعة 4/ أيلول/2015 بات السؤال: إلى أين تتجه العلاقة، سؤالاً عملياً.
يشير التفجيران إلى تعاطي النظام السّوريّ المختلف والجديد والإرهابي مع أهالي السويداء والذي تلخّصه الجملة المشهورة “بالمفخخات جيناكم”. وقد راح ضحية التفجيرين ما يزيد على أربعين قتيلاً وما يزيد على خمسين جريحاً، ناهيك عن الأضرار في المباني والسيارات وعن الجرح المعنوي والنفسي والاجتماعي.
فإلى أين تتجه العلاقة بين النظام السّوريّ وبين أهالي السويداء بعد التفجيريّن الإرهابيّين؟ ولا سيّما أنَّ الناس عموماً لا تبرّئ النظام إنْ لم تكن تتّهمه بالأصل. هل ثمة من تداعيات استراتيجيّة تقوِّض العلاقة الراهنة بينهما؟ هل تتجه السويداء إلى التحرّر من النظام وإسقاطه؟! الشيء الذي يعني، كما يعتقد الأهالي، الحصار والقصف أسوة بباقي المناطق السّوريّة التي أُسقِطَت التماثيل فيها؟! أم إلى بقاء النظام واستقوائه وانتقامه وتصفياته؟! وبناء تماثيل جديدة؟! أم تبقى الحالة كما كانت قبل التفجيرين؟! حالة المراوحة في المكان التي يلخّصها المثل الشعبي: “قاعد بحضنه وعبْيِنتف بذقنه”. أم تتّجه الأهالي إلى “الإدارة الذاتية”؟ أي استمرار علاقة واهية مع النظام حيث يقدِّم هو الطحين والكهرباء والرواتب والمحروقات كالدارج، وتقوم الأهالي بإدارة شؤون عيشها وأمنها المحليّ فلا تتعرّض المحافظة للقصف والحصار ولا يتعرّض النظام للسقوط فيها. أم إلى “حكم ذاتي” يؤسّس للانفصال والتقوقع الطائفي؟!
نعلم أنَّ التكهنات بالأحداث المفردة احتمالية ويمكن أن يحدث أي احتمال من الاحتمالات غير المحصورة، ولكن هذا ينطبق على التكهّن بالحدث المفرد المحدّد, أما بالسيرورة، أي العملية التاريخية والعقلية، فالتكهن جائز ويمكن له أنْ يحدّد الخطوط العامة للعمليّة والمسار العام لا بالتفصيل. فمثلاً توقّع الكثيرون من أبناء المحافظة وبناتها تصفية “وحيد البلعوس” لأنَّه تحدّى النظام، ولكن لم يتكهّنوا بالمكان والزمان والكيفيّة. فأتى التفجيران كمفاجأة بالزمان والمكان والكيفيّة ولكن بالمتوقّع باستهداف “البلعوس”.
راوحت العلاقة بين النظام وبين أهالي السويداء فعلياً بين الحياد السلبي تجاه النظام وبين الحياد الإيجابي. فلم تنحز كلياً له ولم تنحز كلياً للثورة، والدليل هو عدم تقديم الجند والمال لكليهما. ويمكن تصنيف السويداء بأنها فقط موالاة كلاميّة للنظام ومناصرة كلاميّة للثورة. وقد بدأ النظام منذ سنة تقريباً بفقدان هيبته الأمنيّة وبفقدان الثقة فيه تدريجياً. وهنا نلاحظ التناسب العكسي بين هيبة النظام وبين هيبة الأهالي؛ فكلما قلّت هيبة النظام زادت هيبة الأهالي. وكذلك كلما انعدمت الثقة بالنظام زادت ثقة الأهالي بنفسها. إنَّها حالة من “توازن الخوف”؛ فالنظام يخاف الأهالي الذين يخافون بطش النظام.
تأتي هذه الأسئلة على خلفّية حالة عاشتها المحافظة منذ الإنتخابات الشكلية الأخيرة عندما قام “البلعوس” وجماعته بإطلاق سراح أحدهم من قبضة فرع الأمن العسكري وسبقها الاعتداء على خيمة الانتخابات أمام مبنى المحافظة بالمدينة. وقبلهما التدخّل لفك الملتحقين بالخدمة العسكريّة والاحتياط من معسكر “سدّ العيّن”. وبعدها محاولات عديدة ومتكرّرة لإطلاق سراح بعض العسكريّين المطلوبين الذين تم إلقاء القبض عليهم على الحواجز أو التحقوا بفعل “العفو الرئاسي”. وبعدها إطلاق سراح أحدهم من فرع الأمن الجنائيّ كانوا قد لفقوا له تهمة جنائيّة. ناهيك عن تكسير حاجز الجويّة وضرب ضابط بالأمن الجنائيّ في قرية “الرحى” إبّان الخطف المضاد الذي قامت فيه جماعة “البلعوس”، وضرب ضابط من الأمن الجويّ على حاجز الجويّة أثناء تسليم مخطوفين اثنين وبرّاديْهما.
وطالما أنَّ الأمور تخرج عن سيطرة النظام فقد عمل على الردِّ أمنياً كالمعتاد وذلك من خلال ترويج تهمة الإرهاب وتهمة العمالة لإسرائيل، وعمل على إشعال الفتنة الدّرزيّة-الدّرزيّة والفتنة الدّرزيّة-الحورانيّة والفتنة الدّرزيّة-البدويّة، ولجأ إلى التعامل الأمني والتصفيات والملاحقات وأخيراً ربما يتّجه إلى حصار المحافظة وقصفها.
ويمكن تلخيص الرأي العام في السويداء بأنّ المحافظة غير قادرة على الاستغناء عن النظام الذي يتحكّم بالطحين والماء والكهرباء والاتصالات والمحروقات…ولا يريد الرأي العام نفسه أنْ يمدّ النظام بالجند والمال وكذلك لا يريد منه التخلّي عن حماية السويداء من الإرهاب المزعوم. معادلة متناقضة نعم ولكنها واقعيّة فلطالما اجتمعت المتناقضات واقعيّاً.
ذُعِر النظام من ردّة الفعل الغاضبة والفوضوية والشعبيّة وبدأ الفبركة الإعلامية الكاذبة والانكفاء عن المواجهة المباشرة واللجوء إلى مواجهة غير مباشرة بأيادٍ درزيّة.
ثمّة تداعيات استراتيجيّة تطال العلاقة مع النظام ولا تطال العلاقة بالشعب السوري والوطن السوري. فقد رفض دروز السويداء التقسيم والانفصال عن الوطن الأم وعملوا على تكريس الوحدة والاستقرار ورفض مجرّد الدعوات للحكم الذاتي وما شابه ذلك.
فتاريخ دروز السويداء الوطني المرتبط بقضايا المنطقة -كقضية مقارعة الاستعمار والانتداب والاحتلال وقضية فلسطين وقضية الوحدة العربية – يؤكّد أن دروز السويداء مُكوِّن اجتماعي أصيل من مُكوِّنات الشعب السّوريّ وليسوا مُكوِّناً سياسياً على الإطلاق وأنِّ ما يُمثِّل طموحهم هو الدولة الوطنية الديمقراطية بالصيغة الفدرالية لا المركزيّة.
إنَّ وطنية دروز السويداء وعروبتهم أهم من طائفيتهم بدليل عدم تنسيقهم مع دروز آخرين في وطنيات مجاورة كالأردن ولبنان وفلسطين عبر تاريخهم الطويل في سوريا وبالرغم من المحاولات الكثيرة المحمومة.
إننا أمام معادلة معكوسة بالسويداء؛ فكلّما زاد حمق النظام تعقّل الأهالي. وكلّما نقصت هيبة النظام زادت هيبة الأهالي. وكلّما نقصت الثقة بالنظام زادت ثقة الأهالي بأنفسهم. وكلّما تراجعت العلاقة مع النظام كلّما زادت المواطنة والوطنيّة عندهم.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.