بدمِهم وبلا عنتريات وبعقلانية سياسيّة، وقّع ما تبقى من ثوار “داريّا” وأهلها على الخروج منها! برعاية دوليّة نعم، واستقلوا حافلات الأمم المتحدة الخضراء مجاناً أجل! ولكنهم خرجوا كخيارٍ أقلّ سوءاً من خيار استمرار صمودهم الأسطوريّ بأسوأ ظروفِ القصف والحصار والخذلان، تلك الظروف التي تؤدي إلى الانتحار الجماعيّ؛ وذلك للخلل الكبير في موازين قوى الثورة لصالح القوى المحليّة والدوليّة متعديّة الجنسيات أولاً، ولدور الزمن في قلب حقهم أو حق الثورة باطلاً ثانياً، وللمصلحة الكامنة في “سِفر الخروج” عند أعداء الثورة ثالثاً.
خرجوا نعم، ولكن لسان حالهم يقول كما قال “لينين” يوماً بعد توقيع صلح “تريست ليتوفيست” المُّذِّل لـ ”روسيا” آنذاك أمام “الألمان”: “إنَّ الكرّة للضواري؛ يجب علينا أن نُجبِر الظروف المتحجِّرة على الرقص بأن نعزف لها لحنها ذاته”. فهل ستمضي الأيام وستعود داريّا لأهلها المنتصرين؟ وهل سنعزف لحن ظروفنا المتحجِّرة ذاته، أم أننا سنكرِّر عزفنا السابق المُفارِق لظروفنا المتحجِّرة؟ وهل سنتعلم الخسارة من أجل الانتصار؟ أسئلة كثيرة تتضارب خبط عشواء وأجوبتها برسم السوريّين وعهدتهم.
لنعزف لحن المعقوليّة الواقعيّة، وهو لحن الظروف المُتحجِّرة ذاته، ونُجبِرها على الرقص لنا، وإلا تحوّلنا لسمادٍ للتاريخ. وما لحن ظروفنا المتحجِّرة ذاته إلا تعديل موازين القوى بأي شكلٍ، واللعب بمفاعيل الزمن، ورفع مصلحة الثورة فوق كل شيء. أما لحن النشاز الذي عزفناه سابقاً ما هو إلا لحن الاستجداء والانتظار والاتكال على المجتمع الدوليّ والدول المانحة صاحبة المصلحة الخاصة بها.
“داريّا” امتحانٌ للسلميّة، للوطنيّة السوريّة والمواطنة، للصمود الأسطوريّ، للحصار.. بجملة واحدة: “داريّا” امتحانُ المجد، امتحانُ الثورة السوريّة! إنها ابنةُ السوريّين المَوْءودُة، وردةٌ في صليب حاضرنا! إنها مكانةٌ أكثر منها مكاناً!
لطالما كانت السياسة مرتبطة بالإرادة والاختيار، ولكنها في سوريّة تراجعت إلى حالة الضرورة والإجبار؛ بفضل إرهاب النظام الحاليّ بمعية المجتمع الدوليّ. يا لهول انحطاط المجتمع الدوليّ و”الدولة” السوريّة! يقتلعون الأهالي من بيوتهم!
وإذا كان لكلٍّ من اسمه نصيب، كما قالت العرب قديماً! فـلـ ”داريّا” من اسمها نصيب أيضاً. فهي اسم عربيّ-أراميّ قديم وتعني الدار والمسكن والسكينة لا التهجير والهدم والاضطراب. وستعود داراً للسكن والسكينة. وقد خطر لي مرةً -كما للكثير من السوريّين- تسمية ابنتي عند ولادتها منذ أكثر من سنتين بسم “داريّا”، وحال دون ذلك تدخل صديقة لي قالت: لا تجعل مصير ابنتك كمصير “داريّا”، وأوردت مثالاً عن أبٍّ كرديّ قد سمى ابنته “حلبجة”، ثم قتلت عام 2014 في سوريّة عن عمر يناهز ثمانية عشر عاماً. فالجميع برسم القتل في سوريّة بغض النظر عن الأسماء! لقد دخلت “داريّا” التاريخ من أوسع أبوابه خالدةً فيه بمجدِها، وستتحول إلى أيقونة للسوريّين، وإلى نموذج للمجد والكرامة والحريّة.
لقد تعلّمنا الدرس جيداً. ويتلخص ببساطة بالمثل الشعبيّ: “ما بيحك جلدك غير ظفرك”؛ أي الاعتماد على الذات وترك الدوليّ والإقليميّ إلى غير رجعة. وتعلّمنا كيف كان لدولتنا الفاشلة والمجتمع الدوليّ الفاشل أنْ ينتصروا على أهالي “داريّا” بصفقة إما الخروج وإما الإبادة والثالث مرفوع. فلا وألف لا، لفرض منطقٍ صوريٍّ عقيم، لا ينتج جديداً إنسانياً بل يدور ويدور إلى ما لانهاية له في الجحيم. فإذا انحطّت الدول إلى هذا القاع، فلا عتب على العصابات والمليشيات والفصائل والقراصنة والشلل… فلا فضيلة بالدولة يا “أفلاطون” كما زعمت في “حوار الجمهوريّة”؛ فلتحترق الدولة بانحطاطها؛ لأنهم يثبتون بالبرهان القاطع أن فضيلة الدولة هي في السماء فقط، وليس في الأرض، وأن أرضنا غير قابلة للتحسين بالمطلق. يا لكم من أغبياء تقفلون باب التاريخ!
الضروريّ في السياسة هو التحكم في المصير والأمن والاستقرار والعيش؛ أي التحكم في الوجود ونموه، بينما الضروريّ عند الدول هو القتل والتهجير والعدم. فما الضروريّ بإخراج الأهاليّ من أطلالِ بيوتهم؟ هل هو إعادة تموضع لمناطق النفوذ؟ أم نفخ سمومكم ونيرانكم وثاراتكم في وجه الحريّة؟ تريدونها تهجيراً أليس كذلك؟ فلنجعلها فرصةً لجمع القوى، واستراحةً لالتقاط الأنفاس، ومراجعةً وتقويماً للوقائع، وآليةً للتعاطي مع الظروف المتحجِّرة؛ للكرِّ من جديد وهزم الهزيمة لتحقيق فضيلة الدولة المأمولة في الارض وفتح باب التاريخ.
بعدكِ “داريّا” افترشت مجهولي وهُزِمت في هزيمتي! ولكن الكرّة للضواري فهدئي من روعك لأنها زيارة وليست هجرة.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.