في مؤتمر إعلان استسلام نوكيا للطاغية مايكروسوفت، نُقل عن رئيس شركة نوكيا أنه قال: “نحن لم نفعل شيئاً خطأ، لكننا فشلنا!” ثم بكى وبكى معه جميع النوكيويون.
شبه أحد شباب داريا حاله وهو يشاهد الباقين من أهالي مدينته يخرجون منها مرغمين بوالده الذي كان مريضاً بالسرطان، وهو يعرف أنه مريض بالسرطان، والأطباء قالوا له إنه يحتضر، ولا ينفعه الآن طب ولا غيره، لكنه عندما حلت ساعة المرحوم حزن وملأه الكمد.
كلنا نعرف أن معركة داريا لا يمكن كسبها من الناحية العسكرية، لكن يملؤنا أمام ما حلّ بالمدينة الحزن والكمد.. والغيظ أيضاً.
وقد نواسي صديقنا الداراني بأن الموت حق.. لكن اغتيال المدن ليس حقاً.
ما يؤلم أكثر من الزعل والوجدانيات، ومن انتزاع الأهل والأحباب من حقوقهم بهذه الطريقة، هو أنه لا يبدو على الثورة والثوريين أنهم عرفوا لماذا سقطت داريا، رغم ما يتمّ تداوله من أن مقاتلي داريا خُذلوا من قبل الجميع. لكن لا أحد يسائل الموضوع بجذرية أكثر؛ كأن يبحث عن خطأ أصيل يتجاوز أن (الفزعة) لداريا تأخرت ولم تأت.. ويطرح احتمال أن هناك خطأ منذ البداية، بأن يتم جرّك إلى معركة غير قابلة للربح. وبالتأكيد لا نعني بـ (الخطأ منذ البداية) أنه لم يكن على أهالي داريا أن يثوروا على الذلّ والظلم انتصاراً لكرامتهم وحريتهم.
عسكرياً، لتكسب معركة داريا يجب تفكيك مطار المزة العسكري، وتحييد الفرقة الرابعة- دبابات – وكذلك المقارّ العسكرية في سهل كوكب ومحيطه، بالإضافة للسيطرة على أتستراد درعا الدولي واتستراد بيروت (المتحلق الجنوبي)، وهذا بالضبط هو تعريف سقوط النظام عسكرياً.
إذاً، كسب المعركة العسكرية في داريا هو سقوط النظام. لم يسقط النظام فلم تكسب داريا المعركة.
—
معلوم أن المدينة لم تختر المعركة، وإنما فُرضت عليها، وصحيح أن المعركة دفاعية منذ بدايتها، ومنذ بدايتها أيضاً نزح أكثر من 90 بالمئة من أهالي المدينة، وسرعان ما صار (الكسب) هو صمود من بقي منهم تحت النار. وخلال الثلاث سنوات الأخيرة تم طرح تسويات عديدة، لكن النظام لم يقبل إلا بمآل مجحف، يوازي حقده الخاص على داريا.
لا أحد يريد أن ينكر مساهمة داريا المتميزة في الثورة، ولكن من غير النافع تقديس التجارب وجعلها فوق مستوى الدراسة. ورغم كل الصمود والبطولة والشهامة التي أبداها مقاتلو داريا ونشطاؤها، بينما هم يحاولون اجتراح معجزة لم تأتِ، يبقى الاعتقاد بأن داريا على حق، يختلف عن القول إن داريا هي الحق. ذلك لا يجعلنا نضطر لتقبل فكرة خاطئة مفادها أن “الحق هُزم”، وأن الباطل أزهق الحق!
لننسجم ولنحافظ على مسلماتنا الذهنية، يمكننا أن نغير التسميات كما نشاء، دون أن نؤثر على الواقع وعلى الحقيقة. يمكن أن نسمي الهزيمة انتصاراً، والانتصار هزيمة، والأسلم أن نسمي شيئاً واحداً هزيمة وانتصاراً معاً!
المشكلة أن الناس لا تعرف، وربما لا تعترف! ويقولون كما قال رئيس نوكيا: لم نخطئ ولكن فشلنا!
غير أن الحق لا يهزم، وخاصة أمام الباطل. وإذا حصل أن هُزم (مَن عندَه) الحق فذلك لمشكلة مِن عندِه. فقوانين الكون ثابتة وليس فيها محسوبيات ووساطات ومجاملات وأيقونات. البحر لم ينشق أمام مقاتلي داريا، لأن الإخلاص لا يكفي لتحقيق النجاح. والأماني أيضاً لا تكفي بل هي تزيد من الصعوبة غالباً.
—
أثناء التحضير لإجراءات ترحيل من بقي من أهالي داريا توفى التوأم الملتصق الذي ولد في الغوطة، واللذين بذلت جهود كبيرة جداً جداً لإنقاذهما، وتم إطلاق حملة من أنجح الحملات الإنسانية التي عمل عليها ناشطون سوريون مؤخراً، من أجل إخلاء الطفلين نورس ومعاذ من الغوطة إلى بلد يمكن فيه إجراء عملية إسعافية لفصلهما وعلاجهما.
طوال شهر كامل ظلّت الحملة قائمة وناجحة وفعالة، لكن الطفلين ماتا، والبقية بحياتكم، مع أن الحملة نجحت.
ما أصعب أن تفشل وأنت تظن أنك تصرفت التصرف الصحيح. تخسر مرتين؛ مرة بالفشل ذاته، ومرة بفوات فرصة التعلم من الخطأ.
بمثل هذه التجارب (العبثية) تُفتح أبواب التطرف والعدم.
كيف يمكن الإمساك بهذه المعادلات: الصح لا يفشل. والحق لا يأتي إلا بالحق، والباطل لا يمكن أن يأتي بحق؟!
كيف يمكن أن نعرف الطيب فنستفيد منه، ونعرف الخبيث فنتجنبه؟ دون أن نغمط حقوق الطيبين الذين يرتكبون أخطاء، أو أن يخدعنا الخبثاء الذين يقومون بأعمال حسنة؟
تبدو مهمّة عزل الصحيح الطيب عن الخطأ الخبيث مثل فرز الرز أو العدس عن الزيوان والحصى ، لكن دون هذه الفرز لا يمكننا الاستفادة من الدروس والتجارب وإن كانت بقسوة درس داريا.
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.