مجلة طلعنا عالحرية

خيانة المثقف

سميح الصفدي

لست أقصد بهذا العنوان المكرر ذلك “المثقف” الذي يخون!! “مثقف” البلاط أو “مثقف” الجماعة.. أو غيرهما، إنما أقصد المثقف الذي يُخان، الذي يقع عليه وعلى ما يمثله من مباديء فعل الخيانة، كقولنا “خيانة الوطن” مثلاً، أقول هنا “خيانة المثقف”.

وكلمة “الخيانة” تحيلنا فوراً إلى الأخلاق والضمير الإنساني.. ذلك أن هذا المقال يود أن يقول أن لا مثقف بلا ضمير ولا ضمير بلا ثقافة، وبالتالي فإنه من المبرر القول أن لا وجود للمثقف الخائن… لأن الخائن دوماً هو إنسان بلا ثقافة.. أو بثقافة مبتورة، إنما الوجود هو للمثقف المهزوم بالضرورة في واقعنا الراهن.. الذي يُخان ويُعزل.. ويُسجن ويُهمل… أو يُنفى ويُقتل.

وتجنباً للإطالة هنا أجد نفسي ملزماً بأن أحيل القارئ إلى مقالة سابقة بعنوان “البنى الطبعية وتأثيراتها في تمايزات مواقف السوريين” كانت قد نشرت في العدد 56 من طلعنا عالحرية، وأخرى موسعة كانت قد نشرت في موقع الجمهورية للدراسات. ومن الصعب على من لم يقرأ الجزء السابق أن يفهم سياق هذا المقال واستنتاجاته.

بناءً على ما عرضته في المقال السابق حول غياب الضمير في البنى النفسية للمجتمعات التي رُبيت  على القمع كحال المجتمعات العربية، فإنه لمن الطبيعي أيضاً ألا يكون هناك علاقة صحيّة ما بين المثقف/ صاحب الضمير، والمجتمع. وبالمثقف أقصد كل من يتخارج مع الواقع ويحاول تغييره، ويستبطن أخلاقاً جديدة غير الأخلاق السائدة، حيث تكون مرجعيته الأخلاقية داخل نفسه لا خارجها.

وإذ أقول أن هذا المثقف الأصيل لا يخون فإنني بالطبع لا أصدر حكماً مطلقاً، إنما القصد أنه ليس من طبعه الخيانة، وهو إذ يخون فإنه يخون فرعياً، استثنائياً، بينما تكون الخيانة عند من سأسميهم “التابعين” عادة شبه حتمية.

ولنقل من البداية إن تجربة المثقف الموصوفة هنا لا تحاكي أنصاف المثقفين أو المثقفين “الأتباع”، إنما هي تحاكي المثقف الأصيل، الاستثناء، والذي خاض أو يخوض تجربة حية في ممارسة الثقافة ومحاولة التغيير ضمن المحيط.

ومثلما لا تملك الشمس إلا أن تضيء فإن شعلة المثقف صاحب الضمير لا بد أن تنير، ولا بد إذ ذاك أن يدخل في علاقة تفاعلية مع محيطه المظلم لن تجر عليه إلا الويلات فيما بعد.

بالعموم ستمر تفاعلات المثقف مع أفراد مجتمع كهذا بثلاثة أطوار متتالية: طور التأثر والإعجاب ويترافق برغبة متسرعة في التغيير من قبل التابع على الصعيدين الخاص والعام، ثم طور التماهي والتبعية، يعقبه طور الخيانة.

في مرحلة التماهي، التي قد تطول أو تقصر، سوف يشكل المثقف بديلاً خارجيا عن ضمير مفقود لدى التابع، لكن الخارجي سوف يبقى خارجياً، وسيكون له ثقله الضاغط على الطباع الراسخة في الطبقات النفسية العميقة. سوف تتسم هذه المرحلة بالنسبة للتابع بازدواجية متعبة تقيده وتثقل عليه ليفكر أو يتصرف وفق مباديء المثقف.. ولا يندر أن يكتشف المثقف المتبوع هذه الازدواجية، خصوصا عندما يتسنى له أن يعاين التابع في أوقات لا متوقعة، ليرى فيه ذلك الجانب المختبيء وراء القناع الذي دأب على الاحتجاب خلفه في حضور المثقف / الضمير.

إلا أن هذا الضغط المتواصل وغير المقصود الذي يشكله مجرد وجود المثقف سوف لا ينتهي إلا بحتمية واحدة… الانفجار في لحظة الحقيقة، والانكشاف على كره عميق ومشاعر انتقامية مذهلة راكمها هذا التابع يوماً بيوم ولحظة بلحظة..  انتقام على كل لحظة لا صدق عاشها مقلداً أو مسترضياً والده البديل.

من المرجح أن يحدث هذا الانفجار في أوقات الضعف والهزائم التي تواجه المثقف، وما أكثرها في هذا الواقع المأزق الذي لا ينتج إلا هزيمة مستمرة.

من جهة أخرى فإن جدلية هذه الواقعة المتكررة تلقى الضوء على جانب من أسباب هذه الهزيمة المستمرة التي تكابدها النخب الثقافية العربية التي تحاول أن تكون حديثة وديموقراطية ومتسامحة، وهذا مقابل النجاح المتصاعد للأطر والجماعات القائمة على القمع والاستبداد. فهي تفسر سيكولوجياً ظاهرة الانشقاقات والانقسامات والخيانات الدائمة المدهشة في لا منطقيتها، تلك القدرة الدائمة على الهدم مقابل العجز عن البناء، القدرة على التفتت وتشكيل كيانات أصغر، وذلك من دون أي اعتبار لا للمصالح العامة ولا حتى الخاصة. وتعلمنا التجربة أن كل ظاهرة إنسانية تكرارية لا تجد تفسيرها في المنفعة أو المنطق البديهي العام من الأجدر التفتيش عن أسبابها في الأعماق النفسية.

ضمن هذه الدوامة المتواصلة من الخيانة فالتفرق فالانقسام، من النادر جداً أن نلمح حالات انفصال سلمية تحفظ قليلاً من الود أو الاحترام المتبادل، بل أن الذي يحدث في الغالب انفصالات حادة، انتقامية، تفضي غالباً إلى قطيعة أبدية. وسوف يبقى المثقف ردحاً طويلاً من الزمن عقب واقعة الخيانة عرضة لهجمات متنوعة الأشكال ومحاولات الإسقاط الأخلاقي بأساليب الفضح والتجني والإهانات السادية، وليس غريباً إذا ذاك أن تكون أخلاقه بالذات عرضة للتشكيك والبحث المجهري كونها هي التي شكلت ذلك الثقل الضاغط على التابع طوال طور التماهي.

ولا بد من التنويه هنا أن أخطر هذه الخيانات وأعتاها تأتي من أصحاب نمط “الطبع الشرجي” والتي كنا وصفناها في الجزء السابق. فهي إلى جانب قوتها وعنادها ومثابرتها ونظاميتها الجشعة، تمتلك خاصية بمنتهى الخطورة، وهي التباسها وشبهها الكبير مع «الأخلاق» العامة المتوارثة من جهة، ومع الأخلاق الطبقية والقيم «العصرية» للحداثة الغربية من جهة أخرى، مما يضفي عليها تماسكاً وقوة ومرجعية أخلاقية زائفة تفتقد إليها الأنماط الطبعية الأخرى.

ونظراً لتثبت هذا الطبع الشديد على المال وتمحور حياته حوله فإن الذمم المالية والاتهامات بالانتهازية والسرقة وما إلى ذلك من مهاترات الفساد المنتشرة سوف تسم الشطر الأكبر من الحرب الضروس التي سيخوضها التابع ضد المثقف عقب لحظة الخيانة. هذا إضافة إلى السخرية الوضيعة ومحاولات التقليل من شأن المثقف وقيمة أفكاره، ولا يندر أن توضع حياته الخاصة وحياة أسرته تحت مشرط رقابة كاشفة منتهكة لأبسط خصوصيات الكائن البشري وذلك بحجة اختبار مبتذل لمدى مطابقة سلوكه لأفكاره.

هذه النزعة الانتقامية التي تجد ضالتها في شعار: “مطابقة الفكر والممارسة”، تجعل سلوك المثقف اليومي معياراً لعقله وصدقه ومكانته الحقيقية، حيث يتم التربص به، ومحاولة الإيقاع به متلبساً، وقد تتطور شبكات استخبارات عفوية وغير معلنة لهذا الغرض، ويتخذ ضمن هذه الرؤية القسرية أي سلوك حياتي غير منسجم مع مُثل المثقف الاصيل قيمة عظيمة، قد ترقى الى مستوى “الخيانة العظمى”.

النتائج العامة لسيرورة هذه التفاعلات نراها بوضوح في واقعنا المأساوي، عزلة متزايدة يكابدها المثقف الأصيل، وشعور دائم لديه بانعدام الثقة والتردد المتأهب دوماً لخيانة قادمة، مما يعزز لدى الآخرين نظريتهم الرائجة حول “الاستعلاء” و “التكبّر”.

وبينما يتقدم المثقفون الصفوف في التجارب التغييرية الكبرى لدى شعوب أخرى، يُدفع مثقفونا دفعاً إلى الهامش. وبينما تنمو التجمعات الثورية والتشكيلات المدنية والاجتماعية والسياسية في مجتمعات أخرى، تبدو تشكيلاتنا الحديثة محكومة بالإنقسام المستمر والتفتت اللانهائي.. إلّا ما كان منها قائماً على القمع ومحكوماً بروح الاستبداد..!

Exit mobile version