Site icon مجلة طلعنا عالحرية

خلف باب الغرفة السريّة شيء ما ضاع إلى الأبد

بشرى البشوات

لم يكن في وسع ذرة الماء، تلك الحاملة تكويني، أن تفهم الآتي من تاريخها أو الماضي. لم تفهم أنها بالذات معنى التاريخ، وأنني وأنّك أيها الإنسان لسنا سوى تنويعة بحث أليم، بحث مسكون بالفزع عن مكانها وزمانها الخاصين، وسيبقى ذلك الطفل الثاوي في قاعنا باحثاً عن السرّ العظيم، كامناً فيما وراء باب ما، يسترق النظر ليرى الذي ضاع إلى الأبد، والذي ضاع كان  سفر تكوين وخروج عظيمين (دخول ذرة الماء ثم المكوث ثم الخروج من الرحم)، تسلّسل كارثي للقدر(الذي لن أراه) سيختزن المجهول حتى آخر المسافات.

معه سأكون (حام) الملعون، وسيحمل تاريخي، جنباً إلى جنب، عورة أمي وأبي التي ستنقشُ عورة لا في الجسدِ، بل في الروح. سيكون تاريخي تاريخ العورة، وحلمي عوداً أبدياً على مكانها وزمانها الأصليين. لن تكون اللغة والعقل سوى تمويّه وحجب، كل ما فعلته البشرية في لحظتها الرومانية (التي أقصت فرح الإغريق) وما بعدها، أنها غطت عورة المصلوب بفائض الخيبة، وأنتجت الفن علّها تستعيد تلك اللحظة الأصلية.

كان “غورجياس” أول من تأمّل في اللغة، كقابلية تَرمي إلى بناء حقيقة ذاتية مُستقلة في داخل الواقع الحقيقي على ما يذكر “باسكال كينيار”. ثمّة مكان يعرفهُ كل إنسان دون أن يعرفه أي أحد، رحم الأم، ولكل إنسانٍ زمانٍ ومكانٍ ممنوعان، هما زمان ومكان الرغبة المطلقة، تلك التي لم تكن رغبتنا، رغم أنها أم رغبتنا.

دوماً تتوسّد روحنا يوتوبيا شخصيّة وأخرى تاريخيّة، دوماً كان هناك زمن للسر. في السلّة المُقدّسة هناك شيء مفارق في الزمان والمكان، يَفتن أبناءه ويتوارى خلف ظلال اللغة، هنالك دوماً، خلف باب الغرفة السرية طفل يُصغي ليسمع صوت الشيء الذي لا يراه، ومثلما يكمن الرسام خلف اللوحة يكمن مشهد خلف خطاب اللغة، يقول أرنست رينان “ هناك شيء مُهم في ماضي البشر لا نستطيع ذكره باعتراف صريح، فمثلما لا يمكننا رؤية الإله دون أن نموت، كذلك لا يمكننا أن نواجه حيوانية الإنسان دون رؤية الفزع”.

لا ينظر البشر إلاّ إلى ما لا يمكنهم رؤيته، ولا أحد يملك سرّه الخاص قط، تلك هي غلطة “نرسيس” في نص “أوفيد”: (يجب أن لا تعرف نفسك، كل ما ينتزعك من نفسك سرّ، لا يمكنك التمييّز بين السرّ ونشوتك). وهنا نتذكر أنّ اختراع “التراجيديا الديونيزية” واختراع “البورنوغرافيا” واللوحات التي سميت “libidines” يعود إلى الإغريق، وتنازع الرومان واليهود أيّهما الأسبق في اختراع السروال الذي غطى الأعضاء الجنسية.

وحده الحلم من يَعبِر باباً ضيقاً نحو غرفة سرية تعود بنا إلى الرحم. وحده الحلم في الليل الذي يغرق فيه كل يوم، كل البشر، يكشف جزءاً من هذا العالم الذي تدير له اللغة ظهرها. وحده الفن، حين يطلع النهار، يقترب من حافة الفيض، وحدهم العشاق حين يخلعون عنهم كل ما يسرقهم من عريهم، يقتربون من أرض الرغبة، هنا تصنع دارة من الجلال والجمال. في لوحة “عزبة الأسرار” الرومانية ثمّة بيت ريفي له نافذة تطلّ على الأشجار، يفتح بابه على سلة تقبع فيما وراء الظل، في السلّة كان الفاتن مُجلّلاً بالسرّ, ليس الفاتن هو الجميل بل هو الأجمل وقد تجلّل بالفزع.

بحسب “باسكال كينيار” وحده الفن يستطيع أن يُعيد في شباكه بقايا من تلك المشاهد التي تعود إلى العالم الأخر للعالم .إننا نرى، دوماً، شيئاً ضائعاً يُعطي معنى لما هو باق، معنى نتأوله في الحلم والفن، عود أبدي إلى أول زمان وأول مكان، سبحت فيهما ذرة الماء تلك. نتأوّل وكلّ تأوّل هذيان، لأنّ شيئاً ما ضاع إلى الأبد.

Exit mobile version