بعد بداية الثورة بعام أخرج الإعلام السوري من أرشيفه خطابات قديمة للمجرم الخالد حافظ الاسد، كان قد تحدث فيها عن المؤامرة والإعلام وعن الممانعة والمقاومة والتصدي للأخطار المحدقة بالأمة العربية وخطر الاسلاميين المتشددين، وذلك في خضم أحداث الثمانينات. كان هذا الخطاب (عصرياً) تماماً ومتماشياً حد التطابق مع بروبغندا النظام وإعلامه في تعاطيه مع الثورة، حتى قال البعض بنبوة القائد وتوقعه المستقبل، وكأنه يتحدث عن واقعنا الراهن. الغالبية العظمى من جماهير النظام لم يخطر ببالها أبداً أن القائد لا يتحدث عن المستقبل، بل أن حاضر النظام وإعلامه كان يتحدث بنفس اللغة قبل ثلاثين عاماً مضت مما أتاح هذا التشابه الفظيع. أي أن المفارقة قائمة بالخلط بين اعتبار السبب نتيجة، والنتيجة سبب.
إنه حقاً لشيء يدعو للسخرية حتى القرف ألا تتطور أساليب المجرم التبريرية. لكن…. لحظة، لنتمهل قليلاً في إصدار مثل هذا الحكم. قال غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجيا الجماهير” قبل أكثر من قرن مضى، بأن الجماهير لديها عقائد ثابته مشحونة باللاهوت، وأن التفتت في الآراء يمنع استبداديتها وطغيانها، وبالتالي تميل الجماهير الى اللامبالاة بالتعدد، كما أن الجماهير لا تعقل، فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلاً واحداً من دون أن تتحمل نقاشها، وما يقوله لها الزعيم يغزو عقلها سريعاً فتتجه إلى تحويله حركة وعملاً، وما يوحى به للجماهير ترفعه إلى مصاف المثال، ثم تندفع به في صورة إرادية إلى التضحية بالنفس. في هذه الحالة الجماهيرية تنخفض الطاقة على التفكير ويذوب المغاير في المتجانس بينما تطغى الخصائص التي تصدر عن اللاوعي، كما أن ردود الفعل الدينية حاضرة دوماً لدى الجماهير وتفضي بها إلى عبادة الزعيم وإلى الخوف من بأسه والإذعان لمشيئته فيصبح كلامه دوغما لا تناقش، أما الذين لا يشاطرون الجماهير إعجابهم فيصبحون هم الاعداء.
إذن قد يبدو أن خطاب النظام هذا، هو الخطاب الوحيد المتاح أمامه، فهو قارٌ في الوعي الجمعي لجماهيره (الأبية)، لذلك تغدو اعادته على لسان القائد الأب باني (المجد) ترسيخاً للثوابت التي انبنت عليها سلطته وتأكيداً على عمق العملية السلطوية كتراث حاضر وتاريخ يعيد نفسه، الشيء الذي يحفز لتثبيت النظام من جديد كما حصل في الثمانينيات. فالعدو متربص بالنظام داخلياً وخارجياً وهذا ما حدا بالنظام إلى توحيد خطابه والاستمرار عليه دون أن يرف له جفن متعامياً عن كل الأحداث، منكراً كل البراميل. وهو الذي يعرف عمق الارتباط العضوي الذي صنعه مع الطائفة العلوية، ويعرف مستوى العلاقات التي حرص على ترسيمها بين البنى الاجتماعية السورية، كما أن النظام الذي قام منذ نشأته على أسر الطائفة العلوية لتتمجد بفضلاته وتتميز عن باقي الطوائف والتيارات السورية باقترابها من العائلة الحاكمة، وامتلاكها حق القوة على الآخرين بعد أن كانت مهمشة لا حول لها ولا قوة، لم يغير شيء من طبيعته في عهد الابن، الشيء الذي يضع الطائفة اليوم في مأزق تاريخي حقيقي كان من الممكن أن يكون أخف وطأة لو لم تنجرف جماهير النظام معه ضد أي فعل ثوري يسلبها حقها في سوريا الأسد، وهذا ما يبرر القول (بالعلوية السياسية) اليوم.
لا توجد الجماهير من دون قائد، والعكس صحيح أيضاً، إذ لا يوجد قائد من دون جماهير، هذا ما كان واضحاً في خطاب النظام ممثلاً برئيسه منذ بداية الثورة في مجلس الشعب، بالفصل بين جمهوره وبين باقي السوريين فلا رمادية، “إما معنا أو ضدنا” وقد أصبح أوضح وأكثر صراحة في آخر خطاب له بعد خمس سنوات، “سوريا لمن يحميها ويدافع عنها وليس لمن يحمل جواز سفرها”. إن النظام ببساطة شديدة لا يخاطب السوريين بل يخاطب جمهوره الخاص. سوريا الأسد لكم فدافعوا عن سوريا الأسد لتبقى لكم. يبقى أن الشيء الأهم، والأكثر تعبيراً ووضوحاً، ليس ما تكلم به بشار الأسد وإنما ما سكت عنه ولم يقله في كل خطاباته الطويلة، وهو الذي لم يكف يوماً عن الخوض بالتفاصيل، فشعارات مناصريه التي امتلأت بها جدران دمشق على وجه الخصوص، كــــــ” الأسد أو نحرق البلد”، كانت هي التعبير الصريح والأكثر وضوحاً عن خطاب النظام منذ بداية الثورة حتى اليوم، مثلما كانت هي الأكثر تعبيراً عن سيكولوجيا جماهيره.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج