كانت تجربة الثورة السورية حداً فاصلاً في الربيع العربي، والنظام الدولي على حد سواء. وقبل الحديث عن أية نتائج للتدخل العسكري القادم، إن كانت ستصيب الإرهاب الإسلامي الأصولي فحسب، أو ستمتد نحو الإرهاب “العلماني” في (آخر معاقل العلمانية). وقبل الحديث أيضاً عن الجوانب المظلمة أو المضيئة للتدخل، لا بد من الحديث عن الخسارات التي لم تتضح بعد نتائجها المستقبلية في سوريا والمنطقة والعالم.
الخسارة الأولى؛ وهي خسارة مركبة، تولدت عن عنف النظام السوري الهائل تجاه محكوميه. فبالإضافة لخسارة مئات آلاف الشهداء والمفقودين السوريين، ودمار البلد ونزوح نصف سكانه، وخراب البنى الاجتماعية، وظهور “جيل ضائع” من الأطفال المحرومين من الأمان والتعليم والصحة والحياة النفسية المعقولة..، هناك خسارة الثورات وشعوب “الربيع العربي” لأي أفق سلمي طامح للتغير بالأدوات السلمية والسياسية والمدنية.
لقد أعطى السوريون عبرة لباقي شعوب المنطقة، أن ثمن التغيير، أكبر بكثير من رغبة التغيير وطموحات العيش الحر الكريم التي خرجت شعوبنا صادقة لقيامها، وذلك مع وجود أنظمة، عدوها الوجودي الأول هو الشعوب، وحربها الوحيدة التي تستحق الحرب، هي الحرب على الشعب، وأن السياسة وُجدت للتفاوض “على الشعب” مع إسرائيل وباقي دول العالم، لا للتفاوض “مع الشعب”. وغالباً ما نجد أن العبرة التي نُقلت؛ أو تم انتقالها، لشعوب العالم العربي، بعد أن رأت ما حصل للسوريين في ثورتهم التاريخية، هي أن الهروب من الحرية نحو أحضان الاستقرار الديكتاتوري والأمان الكاذب، (مثلما حصل في مصر) ما زال أهون من الثمن الباهظ للحرية في عالم ساقط، وأنظمة لا وطنية، ونخب غير مؤسسة ولا مؤهلة مسبقاً للقيادة.
كما أعطى النظام السوري مثالاً حياً لباقي الأنظمة التي كانت مؤهلة لثورات الشعوب ضدها، أن القتل والإبادة والمجازر ليست أشياء بتلك الأهمية. المهم أن تتعلموا كيفية القتل المتصاعد، وكيفية التفاوض مع الكبار على دماء شعوبكم، وكيفية خلق الوحش في الإنسان السلمي البسيط إن أردتم قتله بشرعية دولية، وخلق الإرهاب من صلب الاعتدال إن أردتم مساعدة العالم لكم.
خسرت شعوب العالم العربي، منذ الثورة السورية، آفاق التغيير الثوري السلمي، عندما أثبت النظام السوري بأنه يفاوض الشيطان الأكبر والأصغر والمتوسط؛ بل كل شياطين الدنيا، ولا يفاوض شعبه على تقاسم السلطة الموروثة، لكن المنتخبة أيضاً، إن أخذنا رأي أدونيس بعين الاعتبار. مثلما أثبت الإسلام السياسي في بلادنا الشاسعة من المحيط إلى الخليج، أن أحلام الشعوب بالكرامة والحرية والديمقراطية والدولة المدنية، ليست أحلامه، بل إن حلمه الأول والأكبر هو الجلوس مكان الأنظمة العسكرية الحاكمة، وإحلال الطغيان الديني مكان الطغيان “العلماني/العسكري” للأنظمة القائمة.
الخسارة الثانية كانت نتيجة تَعطُل “النظام العالمي الجديد” الذي قام في تسعينيات القرن الماضي على أنقاض الحرب الباردة، وأرسى مبدأ التدخل الإنساني، بتفويض من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، خارج إرادة الدول ذات السيادة، وذلك عندما تقوم تلك الدول بانتهاك صارخ ضد حقوق الإنسان، مثلما حصل في يوغوسلافيا السابقة ويحصل منذ أربع سنوات في سوريا.
إن الصعود الروسي والصيني على سلّم النظام الرأسمالي، محمّلين بإرث سياسي شيوعي شمولي واقتصاد مرسمل، وفي محاولة بائسة لتفكيك القطب الأمريكي الأوحد، واحتلال الصدارة في عالم أرادوه متعدد الأقطاب.
والتراخي الأمريكي المرن مع تلك المحاولة، جعل مجلس الأمن يبدو مشلولاً والأمم المتحدة تكتفي بالقلق والإغاثة، وجعل دولاً مارقة كإيران، أو ميليشيات طائفية كحزب الله، تبدو أكبر من حجمها الطبيعي. إلا أن ما يبدو نوع من مكر التاريخ، هو أن أمريكا الأقوى عالمياً تبقى المستفيد الأكبر من كل ما حصل ويحصل، دون أن تستفيد الدول الشمولية والمارقة؛ في مشاريعها الكبرى، أي شيء يذكر، فروسيا تخرج محاصرة ومعاقبة أوروبياً باقتصادها، وإيران في طور التخلي عن مشروعها النووي، وفشل مشروعها الإقليمي. أما سوريا التي سلمت سلاحها الكيماوي، وحزب الله الذي خسر المقاومة والحاضنة والأهمية، فهؤلاء ليسوا سوى أدوات للعب، لا مشاريع مستقلة أو ذي أهمية في النظام الدولي، القديم أو المتجدد.
ما نريد توضيحه هو أن العطالة “المؤقتة” التي ظهرت في النظام العالمي، والشلل “غير البريء” لمجلس الأمن الدولي، لم يدفع أثمانهما دماً سوى الشعب السوري وحيداً. فإجهاض الثورات العربية، التي كانت في طور التمدد، لولا المثال السوري سيء النتائج، كما انتقال الثورات من طور الصراع “مع” دولة السلطة، لبناء دولة المواطنة، إلى الصراع “على” الدولة بعد انتشار الطائفية وظهور التطرف السني والشيعي كحلقتي صراع ما فوق الدولة، وما دون الوطنية.. كل ذلك لم يدفع أثمانه المُرّة والمأساوية أحد مثلما فعل الشعب السوري.
إن التدخل الدولي المتأخر، والقادم اليوم تحت القيادة الأمريكية، هو أسوأ أشكال التدخل قياساً بأحلام السوريين وشعوب المنطقة، فمع كونه سيفضي، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى إسقاط النظام السوري، إلا أنه يترك على كاهل السوريين المفتتين اليوم؛ والذين تُركوا وحدهم دون حماية لسنوات، ذلك الحمل الثقيل بتجاوز الجراح وبناء دولة قابلة للحياة، وبغض النظر عن النظام السياسي الذي يمكن صناعته مستقبلاً إن كان نظاماً مركزياً أو لا مركزياً، فيدرالياً مثل العراق، أو نظام محاصصة طائفية مثل لبنان، إلا أن المهمة الأصعب في تقديرنا، هي صناعة الدولة الوطنية، دولة القانون والمؤسسات، في ظل الشرخ الوجودي بين السوريين، الذي خلقته سنوات القهر والخذلان والخراب الماضية.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.