إبراهيم الجبين
لا شك أن الثورات بمعناها التاريخي العلمي، شديدة الالتصاق بالفوضى. ومن طبائعها تخريب الأنساق القائمة والتي يمكن أن تنشأ، على المدى القصير، قبل أن تستقر مبادئ تلك الثورة فوق سطح راسخ يقبل به الجميع.
لكن على هذا المبدأ ألا يكون ذريعة لاستمرار الفوضى في كل جانب؟ فمن المتوقع أن تشهد الحروب التي تشن على الانتفاضات الشعبية، فوضى عسكرية، وفوضى سكانية، وفوضى خدماتية، وعمرانية واقتصادية. لكن من غير الممكن أن تستمر في أجوائها أي فوضى “فكرية”.
الفكر هو الذي أحدث التغيير، وهو الذي حرك الناس في الشوارع، دون أن تكون غالبيتهم من المثقفين، تمسك بأيديها بكتاب عن الثورة، يصفها وينظمها ويشرح مراحلها. عفوية الحراك الشعبي، لم تنفصل يوماً عن تحولات التفكير لدى السوريين، وغيرهم ممن اندفعوا إلى الساحات والشوارع في ربيع العرب.
والفكر ذاته، هو الذي كان أول هدف حاولت، ونجحت إلى حدّ بعيد، الأنظمة الاستبدادية أن تضربه. فكان عليها أن تزعزع قناعات الناس بالمبادئ البسيطة التي خرجوا من أجلها، ولكنه في الواقع عين السياسية، كما يقال. وجوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم، برز حين رفع الناس أصواتهم بالهتاف، لم يطلبوا المشاركة في الحكم، ولم يطلبوا تغيير شكل الدولة، ولم يطلبوا نسف أي مؤسسة قائمة، بل طالبوا فقط بكرامتهم وحريتهم. وتحت هذين العنوانين ستندرج آلاف المفاهيم التي غيرت العالم من قبل مرات ومرات.
لذلك انحرف الناس نحو الأبواب الدينية، ومنها إلى المنعرجات الطائفية والعرقية، حتى كادت تتلاشى الهوية الوطنية المجتمعية. أي أن أول سلاح تمّ انتزاعه من يد الشعب كان “الفكر”.
لكن امتياز الفكر أنه لا يتأثر بالقلة والكثرة، ومجرد وجوده متناثراً كأزهار برية تحملها الريح إلى الجهات الأربع، كفيل بجعله ينتشر من جديد بين الناس. وهذا هو حال فكر الانتفاضة السورية، الذي تجاوز كل مدرسة وإيديولوجيا قائمة في الماضي، نحو منطقة جديدة من المستقبل لم تطأها قدم بعد، ولم تخربها المصالح والمنافع والفساد والترهل السياسي الذي أصاب المعارضة السورية طيلة خمسين عاماً كما أصاب بقية أركان الدولة ومؤسساتها ونقاباتها وثنايا المجتمع.
الجديد اليوم أن جميع الحيل والطرائق قد تم تجريبها، من الحلول السلمية إلى العسكرية إلى الحلول السياسية المستحيلة، إلى الاستنزاف إلى الاستنجاد بالغرب والشرق والعرب والمسلمين والمسيحيين والأوربيين إلى العمليات الانتحارية، وهكذا حتى لم يبق شيء بيد السوريين إلا وألقوه في هذه المعركة.
وبقي بين أيديهم اليوم ما بدأ معهم ذات يوم قبل أن يبدأ كل شيء؛ إنه الفكر. وبالفكر وحده، الذي تجاهلته المعارضة، والدول الداعمة الصديقة للشعب السوري، سواء كانت عربية أو غربية. والذي تم ازدراؤه ووضعه تالياً بعد الإغاثة والإسعاف والدعم المالي والعسكري والطبي والدبلوماسي. هذا إن كان قد وجد مكاناً على قائمة الاهتمامات بالفعل.
بوابة المعرفة التي يتوجب على السوريين عبورها، تبدأ من الانسحاب الكبير من اللحظة العاطفية، إلى الزمن الحقيقي. والاستيقاظ على أن ما يحدث ليس فيلماً سينمائياً، ولا نشرة أخبار. بل هو التاريخ. وأن للتاريخ قيمه وقواعده في الحركة. وأنها حتماً لن تقود إلى هزيمة الشعب بعد كل ما دفعه من أثمان. ليس لأنه دفع تلك الأثمان فقط، ولكن لأن الكثير من الأمور قد تغير خلال السنوات الماضية.
وبالمزيد من النظر إلى الخارطة التاريخية السياسية والعسكرية، سيما في حلب هذه الأيام، سيعلم السوريون أنهم يكسبون كل يوم، سواء حقق الثوار انتصارات عسكرية على جيش الأسد وحلفائه أو العكس. لأن انتصار الثوار إنهاك للاستبداد، وتحول للأمام في بنية الثوار وتكويناتهم، حين يواجهون ضرورات ما بعد الانتصار، في حكم وإدارة المناطق وتجنب ارتكاب الأخطاء التي ارتكبت نتيجة الفوضى العقائدية والقضائية والتقنية، من جهة. ومن جهة أخرى لأن انتصارات الأسد وحلفائه ستصبّ حتماً في صالحهم بالمحافظة على مركزية الدولة السورية، مع كل شبر يستعاد إلى سلطة رمزية في دمشق. لماذا يعدّ هذا مهماً؟ لأن الأسد زائل زائل. فنظام حكمه الأمني، تحول خلال السنوات الست الماضيات إلى نظام حربي، نظام عمليات لا نظام إدارة، سلطة معارك لا سلطة مجتمع ومؤسسات. ولن يستطيع الصمود أسبوعاً واحداً بعد أن تضع الحرب أوزارها. مهما توهّم الروس والإيرانيون. وهو ليس قوة احتلال كالإسرائيليين، فهم بالنهاية يمارسون احتلالهم من خارج المجتمع، بينما يضطر الأسد إلى ادعاء انتمائه وانتماء مؤيديه إلى المجتمع السوري.
عبر عن حالة شبيهة بهذه شيمون بييرس في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” بداية التسعينيات. قال حينها إن “الشعب الذي نحتله بات يشكل عبئاً علينا، فعلينا أن نبقى مسيطرين عليه، وعلينا أن نؤمن حياته وأمنه واقتصاده”. وبالتالي أصبح التفكير في مخارج السلام حاجة إسرائيلية، حتى وإن كان سلاماً على مراحل أو سلاماً مشوهاً. لكنه يعكس مأزق الاحتلال. وقد كتبت سابقاً عن لحظة التفكير الإسرائيلية الحقيقية، وأستعيد اليوم تلك القطعة التي أراها لازمة في هذا المقام، فبيريس يستلهم أفكاره في هذا من السير توماس مور ومن كتابه “يوتوبيا”، بالذات حين يصف حال أمّة غزت أمّة أخرى، فباتت تعيش حالة طوارئ مديدة. يقول مور: “منذ أمد بعيد توجه هذا الشعب إلى الحرب ليكسب مملكة أخرى لمليكه، الذي ورث حقاً قديماً فيها عن طريق الزواج. وعندما غزوها وجدوا أن الاحتفاظ بها لا يقل صعوبة عن الحصول عليها؛ فرعاياهم الجدد إما في ثورة متصلة أو أن الغزاة الأجانب يهاجمونهم. وعليه وجد الأكوريون أنفسهم في حالة حرب دائمة، إما لمواجهة هؤلاء الرعايا أو للدفاع عنهم. وفي غضون ذلك باتوا يعانون بسبب الضرائب الفادحة. بينما الأموال تتسرب من مملكتهم. ودماؤهم تسفح من أجل الغير. والسلام بقي بمنأى عنهم كما كان من قبل. لقد أفسدت الحرب مواطنيهم بتشجيعهم إياهم إلى الميل نحو النهب والقتل. حتى تهاوت القوانين”.
ما تقوله الكلمات أعلاه، عن دولة احتلال بقوة “إسرائيل”، تختلف عن الشعب الفلسطيني عرقياً ودينياً وثقافياً. فكيف هو الحال مع دولة الأسد، الذي لن يستطيع إعادة تركيب المجتمع من جديد، ولا جمع القتلة مع الضحايا في حارات واحدة ولا في مدارس واحدة ولا في دوائر دولة واحدة. فالإيرانيون والروس لن يبقوا في سوريا إلى الأبد، وفي النهاية لابد من أن يواجه السوريون السوريين في خارطة واحدة. لكن بعد ماذا؟
بعد أن أنهك الأسد مؤيديه، وحوّلهم مع الوقت إلى حطام إنساني، فاقد للقيم المجتمعية والإنسانية العامة. هو يحتاجهم هكذا في حالة الحرب، لكنه لن يتمكن من التعايش معهم في حالة السلم. وأوضاع المناطق الخاضعة لسيطرته في الساحل وحمص وحماة وغيرها خير دليل على ذلك، حتى طبيعة الجرائم والعلاقات الاجتماعية تقول هذا بصريح العبارة.
هكذا يبدأ الأسد بالتحول إلى مفيد للثورة السورية، وتصبح كل عملياته الإجرامية تصبّ في غير صالحه. وهذا هو مأزقة الحقيقي الذي لن يتمكن من الخروج منه في أي يوم من الأيام.
كاتب وشاعر وإعلامي سوري