بشرى البشوات
يقال بأن ليلى الأخيلية كانت قادمة من سفر برفقة زوجها، أرادت أن تتوقف عند قبر توبة لتسلم عليه، حاول الزوج منعها لكنها أصرّت قائلة: “والله لا أبرح حتى أسلم على توبة، فتركها زوجها تفعل”.
لما دنت من القبر وقفت أمامه قائلة: “السلام عليك يا توبة”، ثم قالت لمن معها: “ما عرفت له كذبة قط”!
فلما سألوها عن ذلك، قالت: “أليس هو القائل:
ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت
عليّ ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو صاح
إليها صدى من جانب القبر صائح
فما له لم يسلم عليّ كما قال؟”!
وكانت قرب القبر بومة فلما رأت الهودج، فزعت وطارت في وجه البعير الذي يحمل ليلى مما أدى إلى سقوطها ودق عنقها. فكانت نهايتها ودفنت بجانب قبر توبة.
ماتت ليلى الشاعرة والحبيبة، التي كانت تسافر في الصحراء بعد أن عاشت طويلاً بذاكرة الحبّ.
الذاكرة الثابتة التي لم تتبدل بأخرى بديلة بعد زواجَين. حين اقتضت شؤون الصحراء ألا تتزوج ممن عشقت!
عاشت برعب من الوجود بعيداً عن توبة، ضمن شرط الجماعة التي رفضت هذا الحب ووقفت في وجهه.
قرأتُ عن قصة ليلى الأخيلية وقصة توبة قبل سنوات، وقرأت أيضاً الكثير من أشعار ليلى التي يقال بأن الفرزدق قد فضّل شعرها على نفسه.
عاشت ليلى طويلاً أغلب عمرها في صدر الإسلام، غير أنها نهلت من شعر الجاهلية. باعتقادي بأن ذلك يعود إلى أن الجاهلية كانت تطلق سراح مشاعرها ورغباتها وتكسّر من تلك الحدود حولها.
سمعت كذلك بقصة ريجين أولسن قبل سنوات وقد جاء اسمها مرتبطاً بالفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد أو Soren Kierkegaard وهو بالإضافة إلى ذلك شاعر وناقد ومؤلف ديني، وقد كتب نصوصاً نقدية حول الديّن المنظم والأخلاق وعلم النفس والمسيحيّة.
حين التقى كيركجارد بروجين أولسن كانت بعد في الخامسة عشرة من العمر وكان ذلك سنة 1837. وتقدم لخطبتها سنة 1840 لكنه بعد أقل من عام أعاد خاتمها، قائلاً بأنه لا يستطيع إسعاد الفتاة دون إيضاح السبب!
ومع أن الإثنين كانا غارقين في الحب، إلا أنه لم يستطع إتمام الزواج، وقد أشار كيركجارد في يومياته إلى أن سوداويته تجعله غير مناسب للزواج، لذلك آثر أن يبتعد عنها.
طلب إليها أن تحرره من ذلك القيد ففعلت.
ثم تزوجت معلمها في صف اللاهوت فردريك شليغل سنة 1847، وعندما حصل زوجها على وظيفة حاكم محلي في إحدى المستعمرات الدنماركية وقرر السفر إلى هناك، قررت روجين بنفس اليوم أن تذهب في جولة صغيرة وتلقي التحية ربما لأخر مرة على كيركجارد.
كان قد مضى أربعة عشر عاماً على إنهاء الخطوبة، على فض الطرقات التي كانت تصل بينهما.
أكثر من خمسة عشر عاماً على تلك المرة التي رآها فيها في إحدى الحفلات الموسيقية ووقعت في قلبه.
قام بإخراجها من حياتها الوادعة، حملها معه إلى عوالمه الأوسع، فأعجبت بشاعريته الفذة وعبق حديثه، ثم فجأة قرر بأنه لن يمضي أكثر.
تصف روجين لقائها به بعد تلك السنوات، “أريد أن ألخص كل ما فكرت به خلال أربعة عشر عاماً، أريد أن أقول: “بأنني لست غاضبة، ولا زلت أودّه، وعليه أن يعرف أيضاً بأنني قلقة عليه، لكنني أريد أولاً وأخيراً أن أقطع الصمت!
سأقترب منه جداً وأقول له بصمت واطىء: الله يباركك
آمل أن كل شيء سيمضي بخير معك”.
نظر إلي بفزع، تنحى بأدب ثم توقف متردداً، تراجع خطوة للوراء ورفع قبعته قليلاً، لكنه لم يقل شيئاً، ثم استدار بعجلة، لدي شعور بأنه سيهرب”.
في نفس العام يموت كيركجارد في إحدى المستشفيات في كوبنهاجن، ويترك بعد موته وصية يترك فيها كل إرثه المادي والفكري لروجين التي يقال بأنها ظلت حتى أواخر حياتها، تبدأ كلامها بالحديث عن زوجها الراحل شليغل والثناء عليه، ولكنها كانت تنهيها دوماً بالحديث عن سورين كيركجارد، حبيب فتوتها وشبابها.
قامت كل من ليلى وروجين بتخطي الحاجز، حاجز الكآبة. حاجز الموت بالحبّ، خَلّدت إحداهن حبيباً، وخُلّدت الأخرى من قِبل حبيب.
تزوجت إحداهن مرتين، وتزوجت الثانية مرة.
عاشت المرأتين حبّاً لم يكتمل، تعذبتا بصمت ربما وأكملتا الحياة.
كتبت ليلى الشعر في الحبيب، وقفت بين يدي الملوك والأمراء ولم تخفِ أبدًا هذا التعلق والوله.
عاشت روجين ملتصقة بذكرى كيركجارد؛ فما أن تُذكر نصوصه ونظرياته وفلسفته في الحبّ والدين حتى يظهر اسم روجين متردداً معه بذات السطر، ملتصقاً بها.
لم يكن كيركجارد على خطأ عندما كتب أنه حبيبها الأبدي.
فقد كتب لاحقاً في أوراقه الخاصة قبل وفاته: “كانت هي الحبيبة، ويمكن اعتبار عملي الفكري أيضاً كأثر تذكاري لتمجيدها وتقديرها، سآخذها معي إلى التاريخ”.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج