مجلة طلعنا عالحرية

حياة الطوابير لدى سكان دمشق واحتجاجات مدنية صامتة

دمشق – سلمى الأسمر

تخلى السوريون عن تعداد المواد التي لا يمكنهم الحصول عليها إلا عبر الوقوف بطوابير طويلة ولساعات غير معدودة. كل تفصيل يومي مرتبط بالطوابير، بدءاً من الخبز والدواء والمواصلات، مروراً بالغاز والمازوت والمعاملات الإدارية، حتى دفع الفواتير يوجب المرور عبر طوابير متصلة قد يؤخرها انقطاع مفاجئ لشبكة الاتصالات، وهذا بات أمراً اعتيادياً لا يخضع لعامل المفاجأة أبداً، أو غياب موظف أو انقطاع الكهرباء أو مشاجرة بين موظف ومراجع!
أمام فرن العدوي وعند الساعة 5 مساءً، منظر طابور الخبز الممتد على الرصيف حتى يكاد أن يبتلعه، بات مألوفاً، فلا وجود لأي مسافة شاغرة، مع الإشارة إلى أن الطابور “أفعواني” أي ملتفّ، وهو بالحقيقة أربعة أنساق متوازية. ويبدو الحديث هنا عن مسافات الأمان بين المنتظرين، حفاظاً على السلامة الشخصية في ظل انتشار واسع للإصابات المعلنة وغير المعلنة لفيروس كورونا المستجد، مجرد دعابة سخيفة تستدعي تفاقم الغضب، وصولاً إلى حالة من الكوميديا السوداء. ما يدعو للقهر هو أن هذا الطابور متصل بفاصل بسيط جداً مع طابور السيارات التي تنتظر وصولها إلى محطة الوقود لتعبئة البنزين؛ سلاسل متصلة من الطوابير تثبت التوصيف الحالي لدمشق: “دمشق الطوابير”.
على كوات النافذة الواحدة التي استحدثت لتخفيف الضغط عن الوحدات الإدارية، ولتلبية الاحتياج المتزايد لمتابعة الواقعات، خاصة للمواطنين من خارج دمشق والذين سكنوها منذ أعوام عشر، غابت خلالها صلتهم بالمدينة الأم.. على هذه الكوات، نساء متّشحات بالسواد، يتابعن عملية توفية أزواجهن أو أبنائهن، الراتب التقاعدي الهزيل بات قطعاً موزعة لكل الورثة. تؤخر النساء لوعة الفراق وجرعات الحزن على غياب الرجال. الأهم هو انتهاء المعاملات الإدارية والحصول على بطاقة جديدة للراتب، بطاقات متعددة تتقاسم ما هو غير قابل للقسمة أصلاً من فرط ضآلته وقلته!
تحاول الموظفة التعاطف مع بعض النساء اللواتي يبدين جهلاً واضحاً بمتابعة الأمور الإدارية: تصطدم بأميّة البعض، وبنسيان بعضهن الآخر لأسماء الأبناء والبنات! وتعجز الأخريات عن كتم قصصهن الخانقة، وهنّ لا يتذكرن من كل الأعوام التي قضينها برفقة الراحلين إلا التعب والحسرات وقلّة الموارد! حتى العاطفة تبدو شحيحة وغير قابلة للتذكر هنا أمام شاشة صماء بلا مشاعر، وأمام موظفة امتهنت مهنة النسيان أو الإنكار، واستبدلت التعاطف بعبارات وظيفية جافة تصل حدّ السخرية أو التوصيف القهري لحالات باتت عصيّة على التجاهل.
تبدو المفارقة شاسعة ما بين أسماء الأماكن التي يقصدها السوريون والسوريات للتسوق؛ فسوق الحرامية كما يسمونه، هو أكثر المناطق التي تتوفر فيها كل البضائع بأقل الأسعار، وأقل الأسعار لا تعني هنا رخصاً ولا سيولة، بل تعني مواد بجودة أقل وبشروط حفظ أسوأ، وبحالة قابلة للتشكيك حتى في مصدر المواد نفسها. نعم.. مسروقة! أو مستولى عليها، أو مغرر بطفل سرقها فمنحوه بدلاً عنها ليرات قليلة.
ومن المشاهد الدخيلة على المجتمع الدمشقي، ظاهرة سرقة الغسيل من على الحبال؛ فمنذ أيام سرق رجل بنطالاً من على حبل بلاستيكي مرتجل في حي لا شرفات لبيوته ولا حدائق داخلية، ثم استبدل بنطاله المتسخ والعتيق، ولبس البنطال الجديد ليترك العتيق في مكانه، ربما يريد إيصال رسالة خاصة مفادها: “نعم لقد سرقته! لكن لألبسه وليس لبيعه”، هكذا يبرر الفقراء المدقعين سرقتهم لشركائهم في الفقر والبؤس.
يعلو صوت امرأة سبعينية لتشتم العيشة المزرية التي تحياها: “الصرافات شغلة مانكن قدها.. بلاها”، كان الصراف الآلي الذي وجدته خارج الخدمة هو العاشر في رحلة بحثها المضنية لمدة تجاوزت الأسبوع، للحصول على راتبها التقاعدي، والذي لا يتجاوز 47 ألف ليرة سورية (أقل من 20 دولار أمريكي).
أما تغريد فقد حضرت نفسها للانتظار الطويل أمام كوة الصراف؛ أخذت معها لفافتها الهزيلة وشبه الجافة وعبوة ماء وقالت: “سأبقى واقفة حتى أقبض راتبي”، مرت ساعتان وهي تمشي من شارع الثورة حتى المحافظة وبالعكس، علّها تفوز بالقبض. كانت تشتم أيضاً، لكنها بكت في النهاية، اختنقت بشتائمها، فذرفت دموع القهر وعادت خائبة إلى بيتها البعيد.
أحدهم قال لها إن كل الصرافات بحاجة للصيانة، والمشكلة في قطع التبديل وفي الشركة المتعهدة للصيانة. تلوح قصة العقوبات في خبايا كل هذا الاختناق، ليس هناك من يؤكد ولا من ينفي، فالناس متروكين لضياعهم وقهرهم الذي يتعاظم دونما أي أمل أو تحسن.
تفرد النساء خبزهن على واجهات السيارات المغبرّة والمتربة المتوقفة على جوانب الطريق. سيارات فارهة مصنوعة سنة العام الجديد 2020، وسعر كل سيارة قد يشتري فرناً بكامله! وأرغفة الخبز ترتمي على حديد السيارات وهي تتلوى من السخونة ومن آهات التعب التي يرددها من حصل على الخبز بعد ساعات.
تطلب سيدة رغيف خبز من امرأة حصلت لتوها على أربع ربطات خبز، تعتذر منها بغضب قائلة: “هيك وما عم نشبع، إذا راح رغيف يعني في ولد نام جوعان”، تنصرف المرأة الطالبة للخبز خجلة من طلبها، يحاول شاب منحها رغيف خبز، ترفض بشدة، نسمعها تقول: “لو بقدر وقف ع الطابور ما طلبت من حدا”!
تتداخل الطوابير ببعضها، تمتد حتى ما لانهاية، يصاب الواقفون فيها بالقهر، لم يعد سؤال الزمن مهما، المهم هل سنحصل على الخبز أم لا؟ هل سيتوقف ضخ البنزين عند وصول سيارتي لمكبس البنزين؟ متى سأحصل على راتبي؟ نريد دفع فواتيرنا، ولا أحد مهتم ليستلم قيمتها منا، المخالفات المالية على التأخير الذي لا يد للمواطن فيهه باتت ضريبة مضافة على كل فاتورة. فدمشق العاصمة تحولت إلى طوابير عصية على الفهم وعلى التقبل وعلى العيش!

Exit mobile version