مجلة طلعنا عالحرية

حلبجة السورية

77

إنّها الساعات الأولى من اليوم الواحد والعشرون من شهر آب الملتهب، لا تمرّ أكثر من ساعتين من ذلك اليوم حتى يتحول فجأة إلى نقطة علاّم في تاريخ سوريا والبشرية جمعاء…. كنت قبل وقوع الحادثة كالمعتاد أقوم بواجباتي اليومية في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وأتبادل الحديث بين الفينة والأخرى مع مديرتي رزان زيتونة، نتناقش في أمور الثورة ومآلاتها وكيف أنّ أرقام الضحايا باتت ترتفع بشكل تدريجي وأصبحت المجازر اليومية سمة بارزة من سمات المشهد السوري، فجأة يقطع ذلك الحديث كلّه خبر عاجل عن استخدام مواد سامّة في الغوطة الشرقية لنبدأ رحلة البحث والتحقق من المصادر وجمع المعلومات ومحاولة الوصول إلى شهود عيان (مستيقظين)… أتذكر تماماً مقطع الفيديو الأول الذي انتشر مثل النار في الهشيم وكان يظهر فيه مجموعة من المدنيين جميعهم من الأطفال والنساء – في باحة أحد المستشفيات – وكانوا يحملون قطعاً قماشية صغيرة يغطون بها أفواههم وأنوفهم محاولين عدم استنشاق غازات أكثر، بينما كانت أصوات السيارات التي شاركت في عمليات الإجلاء الأولى تملاً ذلك المقطع صخباً وضجيجاً ينذر بكارثة إنسانية كبيرة ….

ما هي إلا ساعات قليلة بعد ذلك الهجوم المريع حتى امتلأت جميع النقاط الطبّية والمشافي الميدانية بآلاف المصابين ومئات الضحايا كان عدد الأطفال والنساء طاغياً على المشهد وكانت جميع اللوحات تشترك في الهيئة التي بدا عليها الشهداء حيث كانوا يبدون وكأنهم غارقون في نوم عميق، ثم تتالت الأخبار عن قصف مدينة المعضمية في غوطة دمشق الغربية بمواد سامة أيضاً فقد سقطت العديد من الصواريخ كان أحدها محملاً برؤوس كيماوي يحمل غاز السارين القاتل، وأيضاً تواردت الأخبار عن قصف حي جوبر في دمشق بالمواد نفسها، وقد لعب توقيت الضربة دوراً رئيسياً في ازدياد أرقام الشهداء حيث أنها وقعت في ساعات الفجر الأولى حيث كان معظم المواطنين نياماً أو يعتلون أسطح المنازل مكاناً للنوم بسبب شدّة وارتفاع الحرارة في مثل هكذا فصل في السنة إضافة إلى الأعداد الهائلة للمصابين والقتلى..

بعد بزوغ فجر ذلك اليوم وعند ساعات الصباح الأولى، بدا للعالم أكثر حجم وهول المجزرة في ظل عجز واضح للكوادر الطبّية بسبب نقص هذه الكوادر ونقص وانعدام الأدوية لمعالجة مثل هكذا حالات في مناطق مضى على حصارها أكثر من عام، قالها يوم ذلك أحد الأطباء «أكبر مشافي العالم عاجزة عن استقبال ومعالجة هذه الحالات التي بلغت أكثر من ستة آلاف إصابة»، وإضافة إلى المصابين بالمواد الكيماوية كان القصف بأنواع أخرى من الأسلحة مستمراً ولم يتوقف إطلاقاً وتحديداً في الأماكن القريبة من سقوط الصواريخ المحمّلة برؤوس كيماوية رغبة من قوات النظام في طمس الأدلة ومحو آثار الجريمة البشعة ضد المدنيين في ذلك اليوم.

كان الشيء المربك والغريب في الأمر وخاصة عند من يسمّي نفسه «بالمعارضة» الداخلية، الاستفسار القائل: هل من المعقول أن يقوم النظام باستخدام السلاح الكيماوي في حضور لجنة التحقيق الخاصة بالكيماوي نفسه؟ والتي أنشأت من قبل الأمم المتحدة، ولم تمر عدة أيام على الهجوم حتى قامت الأمين العام بتوسيع صلاحيات اللجنة ليشمل أيضاً هجمات الغوطتين وذلك بالرغم من مماطلة النظام ومحاولة إعاقة عمل اللجنة بكل الوسائل، لتدخل اللجنة بعد ذلك وتجري تحقيقات مستقلة وتجري عشرات اللقاءات مع المصابين والكوادر الطبية وتزور مكان سقوط الصواريخ وتحلل العينات المأخوذة وتخلص بعد فترة وجيزة إلى استعمال غاز السارين بكميات مهولة في هجمات 21 آب 2013، لتأتي تأكيدات لجنة التحقيق الدولية المستقلة حول سوريا – التي أنشأت من قبل مجلس حقوق الإنسان في العام 2012 – وتؤكد أن المواد قد أخذت من مخازن تابعة لجيش النظام، وذلك في إشارة واضحة إلى تورط النظام بهذه المجزرة، وقد خلصت بعض التحقيقات الأخرى التي أجرتها بعض المنظمات العالمية الأخرى إلى تحديد أنواع الصواريخ المستخدمة ( 330 مم و 140 مم ) وهي من نوع أرض – أرض وقادرة على حمل رؤوس كيماوية ولا تمتلكها قوات المعارضة بل تمتلكها قوات الأسد فقط …

لم تكن الضجة الإعلامية التي أعقبت ذلك الهجوم والضربة الأمريكية المزعومة رادعاً لنظام الأسد في عدم إعادة استخدام العناصر الكيماوية والغازات السامة لاحقاً، فقد استطاعت المراكز الحقوقية توثيق عشرات الهجمات بغازات متنوعة وعلى رأسها غاز الكلور، وكانت آخر هجمة في الذكرى السنوية الأولى لمجزرة الكيماوي لترتفع عدد الهجمات الكيماوية والمواد السامة إلى أكثر من سبعين هجوماً مخلّفة أكثر من (1500) ضحية نسبتهم الساحقة من المدنيين وأكثر من اثنا عشر ألف مصاب، في ظل عجز دولي مشين وإفلات من العقاب كان سبباً بسقوط أكثر من ثلاثين ألف قتيل إضافي على يد قوات النظام منذ تاريخ تنفيذ مجزرة الكيماوي ولكن بأساليب موت مختلفة أخرى …

Exit mobile version