في قصص الأطفال، تبطل اللعنة عندما تموت الساحرة الشريرة التي عقدت تعويذتها، وتتوقف أيضاً كل مفاعيلها؛ فيعود الضفدع أميراً وسيماً، وتعود المدينة المتحجرة وسكانها للحياة، وتزهق كل الأفاعي والوحوش والخفافيش وتختفي، وتزهر الأرض من فورها..
أتذكر هذه الحكايات عندما أسمع معارضين وثوّاراً يربطون خلاصنا من كل آفاتنا وبلاوينا بإسقاط نظام الأسد.
“الاستبداد أصل لكل فساد” كما قال الكواكبي رحمه الله، صحيح. ورغم تعقيدات كثيرة في الوضع السوري لا زال التخلّص من الأسد ونظامه أفضل بداية لتفكيك العقد، والنفاثات فيها. غير إن الثورة فعل لنقد الذات وتغييرها قبل تغيير الآخر، بل إن الواقع لا يتغير إلا بتغيير الذات، وعندها أيضاً يتغير الآخر! والثورة هي مفتاح لباب التغيير وليست هي التغيير، هي فرصة ليتخلص مركب البلد من الصخرة على طريقه، ولتبدأ عجلة التغيير بالدوران. وعلى الناس -قبلها وأثناءها وبعدها- أن يستمروا بالدفع وبذل الجهد ليمشي المركب ويتقدّم رغم عواصف تأتيه وستأتيه لا محالة.
أحفظ أيضاً حكاية الطريق والهدف، والطريق هو الهدف. صحيح أيضاً. لكننا هنا نتكلم عن موضوع آخر، مفاده أن التغيير لا يتمّ بكبسة زر؛ فلن تتحول بلادنا -ونعرف كيف كانت- إلى جنات عدن بين يوم وليلة.
نتكلم اليوم بالاتجاه الآخر، رغم أمثلة كثيرة طيبة عن البلد وأهلها وعن الثورة ومكتسباتها، وعن قيم نبيلة أصبحت علامات مسجّلة باسم السوريين.
في هذا البلد، وليس في غيره، كنا، وربما لا زلنا، نسمي النفاق والمداهنة حكمة، والرشوة وسرقة الكهرباء شطارة، وصاحب العلاقات المشبوهة مع ضباط الجيش والمخابرات وجيهاً وواسطة خير. في هذا البلد كان تعليق صورة حافظ أسد وابنيه باسل وبشار على صدور العسكريين المتطوعين والمجندين -بمن فيهم طلاب التدريب الجامعي- أمراً عادياً، كما كان ترديد شعارات البعث كل صباح لزاماً في كل المدارس الحكومية والخاصة، ومن يُشاهَد بأنه لا يحرك شفاهه بالهتاف، أو لا يشارك بحلقات الدبكة احتفالاً بتمديد حكم الأب أو وريثه أو غبطةً بإنجاز ادعاه أحدهما أو كلاهما.. من يرفض هذا وما شابهه، أو حتى مجرد أن يلمّح بشكوكه، يُتّهم بالتهور والجنون من قبل زملائه وأصدقائه وأغلبية المجتمع، فضلاً عن سدنة الصنم. سأتذكر هنا تهماً إضافية مثل التطرف أو (إخونجي) أو (وهّابي) للمسلم الذي يصلّي في الجيش أو أثناء دوامه الحكومي.
وبالنسبة لنا فكثير من مآسي الشعوب والبلدان الأخرى -وضمنها حروب ومجازر ونازحون ولاجؤون وجياع وباقي ما يصيبنا اليوم-.. كانت بلاوي غيرنا مواد لحشو نشرة الأخبار، وإن ذكرناها فللشجب والندب.. ولا شيء أكثر.
كيف توقف تدفق ذاكرة سلبية عن الخراب الذي كنا نعيشه؟!
لكن.. وعلى هيئة نفحة من نفحات الله، قامت الثورة، وقام السوريون حقّاً. والله يحيي الأرض بعد موتها.
في الكلام عن الثورة ومنجزاتها، نسعى جاهدين لترسيخ فكرة أن السوريين قادرون على إدارة شؤونهم. نحاول التركيز على الإيجابيات و قصص النجاح. وكثيراً ما نتحاشى نشر الغسيل الوسخ لنبتعد عن السلبية و”من قال هلكت الأمة فهو أهلكها”..
والعجيب أن البعض يركز على الإيجابيات لدرجة لا يمكن أن توصف بالإيجابية.
يعتبر ذكر بعض الحقائق عن مخرجات تُحسب على الثورة، أو أنها بسببها، غريباً كأنه نكتة سخيفة.
من أسمج هذه المفارقات أن المناطق المحررة امتلأت بمكاتب (أمنية)، تُميَّز عن بعضها بالأرقام، يراجعها المواطن متّهماً، ويحصل فيها على (إضبارة) من جملة ما تتضمن: استمارة (أمنية أيضاً)، تستجوبه عن كل أقاربه وأصدقائه وجيرانه وأعمالهم وتوجهاتهم..
ومن نكد الدنيا أن تشاهد فيلماً رديئاً مرة أخرى..
..يتم الاطلاع على موبايله الشخصي ويطلب منه إعطاء بريده وحساباته على مواقع التواصل مع كلمات المرور.
هل فاتك فلم الرقابة على المطبوعات والانترنت؟
لا بأس.. هناك عروض أخرى أكثر حماساً.. مخبرون، مقنّعون، حواجز تفتيش، مداهمات، مطلوبون، سجون، تعذيب..
لا يكفي الحبل لنشر غسيلنا!
وبالإضافة إلى مسلسل غير نظيف أيضاً لتتبع حياة الناس والتدخل في تفاصيلها، لا غسيل أوسخ من أن السوريين، أبناء الثورة الواحدة، عادوا (كفاراً) يضرب بعضهم رقاب بعض. والفضيحة لا يتستر عليها أصحابها بل يفتخرون بها!
ما أسهل إنعاش الذاكرة المثقلة بأفلام الرعب والغسيل الوسخ.. وهل صعب أن يقلب الناس الشريط ويعودون أبطالاً لفلمهم وينشرون غسيلاً نظيفاً وبألوانهم؟.. سبق وفعلوا..
أحاول أن أعدّل نهايات القصص عندما أحكيها لابنتي، لكني لا أخبرها أننا بعد رحيل الطاغية الشرير سيبقى علينا التعامل مع الخفافيش والضفادع والحرباوات والسحالي.. وديدان تنخرنا.. منّا وفينا.
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.